الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمما ورد النهي عنه ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعةٍ)).
الدراسة الحديثية:
وهذا الحديث رواه الترمذي في كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، برقم 1231، والنسائي في كتاب البيوع، باب: بيعتين في بيعة، برقم 4632، وأحمد في مسند أبي هريرة رضي الله عنه، برقم 9584، والحديث صحَّحه الترمذي، وابن عبدالبر، وقد تفرَّد بهذا الحديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو ضعَّفَه غير واحد من الأئمة، وذكره العقيلي وابن عدي في الضعفاء، وعلى أحسن أحواله فمثله لا يحتمل التفرُّد، إضافة إلى أن روايته عن أبي سلمة مضطربة كما ذكر ذلك ابن معين وأحمد بن حنبل؛ قال ابن معين: "ما زال الناس يتَّقُون حديثه، قيل له، وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدِّث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة".
وقد جاء النهي عن بيعتَينِ عن جمع من أصحاب أبي هريرة عند البخاري ومسلم وغيرهما دون زيادة (في بيعة) مما يدل على أنها زيادة منكرة، وفسر الحديث البيعتين المنهي عنهما ببيع الملامسة، والمنابذة، وجاء النهي عن بيعتين في بيعة عند الترمذي من طريق يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر، ويونس لم يسمع من نافع كما ذكر ذلك ابن معين، وأحمد، والبخاري، وأبو حاتم.
وجاء النهي عن بيعتين في بيعة عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده،
وعمرو بن شعيب فيه خلاف بين المحدِّثين؛ فقد ضعَّفه يحيى القطان، وابن معين في رواية، وأحمد، وأبو داود، وذكره البخاري في الضعفاء الصغير، وذكر أن مما يُعاب عليه أنه كان لا يسمع بشيء إلَّا حدَّثَ به، وقال عنه ابن معين: "ليس بذاك"، وقال أحمد: "له أشياء مناكير؛ وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا".
ولعل تضعيف هؤلاء الأئمة له منصبٌّ على روايته عن أبيه، عن جده؛ فأكثر مروياته هي عن أبيه، عن جده، وسلسلة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، حصل خلاف بين الأئمة فيها، والراجح أنها ضعيفة، وممن نص على ضَعفها أيضًا ابن معين، وابن المديني، وابن حِبَّان، وابن عدي، إضافة إلى أن طرق الحديث إلى عمرو بن شعيب لا تخلو من ضَعْف، ولا يثبت منها إلا ما جاء عند الترمذي من طريق أيوب السختياني، عن عمرو بن شعيب، وليس فيه النهي عن بيعتين في بيعة.
الدراسة الفقهية:
وقد أجمع العلماء على النهي عن بيعتين في بيعة، وقد وردت تفسيرات كثيرة لهذا الحديث، أشهرها:
1- أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارَقه على أحدهما فلا بأس، وهو قول عند الحنفية، والمشهور عند المالكية، وقول للشافعية، وقول عند الحنابلة، وقول لابن حزم، والعلة على هذا التفسير هي الغرر.
2- أن يشترط عقدًا في عقد؛ كأن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني سيارتك بكذا، فإذا وجبت لي سيارتك، وجبت لك داري، وهو المشهور عند الحنفية، وقول للشافعية، والمشهور عند الحنابلة، وقول لابن حزم، والعلة على هذا التفسير هي الغر، أو الاستغلال، واختار بعض العلماء أن كلا التفسيرين السابقين صحيح.
3- أن يبيع السلعة بثمن مؤجلٍ على أن يشتريها ممن باعها عليه بأقل حالًا،
وهي مسألة العينة، وهذا أحد تفسيرات الإمام مالك للحديث، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والعلة على هذا التفسير هي الربا، وتفسير بيعتين في بيعة ببيع العينة تفسير قديم؛ فقد ورد عن الإمام مالك، قال ابن عبد البر: "وقد فسر مالك مذهبه في معنى النهي عن بيعتين في بيعة واحدة، وأن ذلك عنده على ثلاثة أوجه: أحدها العينة".
وعرَف ابن عبدالبر العينة بقوله: "أما بيع العينة: فمعناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل
بينهما سلعة محللة".وفي هذا رد على بعض الباحثين الذين ذكروا أن هذا التفسير للحديث لم يخرج إلا متأخِّرًا؛ قال العمراني عن هذا التفسير: إنه "لم يظهر إلا في القرن الثامن"، وقال الدبيان عن تفسير حديث بيعتين في بيعة: "وتفسير السلف، والذي عليه جماهير أهل العلم لم يفسروها بالعينة، وحملها على العينة إنما جاء متأخرًا".
وتفسيرات الحديث كثيرة كما سبق بيانه، وقد اختار بعض الباحثين المعاصرين أن الحديث ينهى عن الجمع بين عقدين أو أكثر إذا أدَّى هذا الجمع إلى الوقوع في المحذور الشرعي، إما لوجود الغرر، أو الربا، أو الاستغلال.
والأقرب في تفسير الحديث - والله أعلم - هو أن يُقال: إن حرف (في) بمعنى (على)، وإن لفظة (بيعة) يُراد بها السلعة أو المبيع؛ فيكون المراد هو النهي عن إجراء بيعتين على السلعة في وقت واحد بعقد واحدٍ، وهذا يصدق على بيعها بثمنين في وقت واحد دون تحديد لأحدهما؛ وهو التفسير الأول الذي عليه أكثر أهل العلم؛ فعدم تحديد أحد الثمنين جعل السلعة كأنها بيعت بيعتين في وقت واحد بعقد واحد، وهذا فيه جهالة للثمن يؤدي إلى النزاع.
أما التفسيرات الأخرى للحديث، فلا تسلم من الاعتراض،
فالتفسير الثاني الذي فسر البيعتين في بيعة بأن يشترط عقدًا في عقد، يُعترض عليه بأن الذي حصل في العقد الأول هو الشرط فقط، والبيع الثاني تَمَّ على مبيع آخر في عقد آخر، فلا يصدق تسمية هذا الشرط بيعًا.
أما التفسير الثالث الذي فسَّر البيعتين في بيعة بالعينة،فيُعترض عليه بأن بيع العينة معروف زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويبعد أن يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم نهي عن العينة بألفاظ تختلف الأمة في تفسيرها اختلافًا كثيرًا، وهو يعلم أن العينة أجمع لفظًا وأبين معنى، وكذا يبعد أن يترك الصحابة رضي الله عنهم، وهم أهل البيان لفظ العينة البين، ويذهبوا إلى ألفاظ أخرى تحتاج إلى بيان وإيضاح، إضافة إلى أن البيع الثاني للسلعة في بيع العينة يتمُّ في عقد آخر في وقت آخرَ، وهي مستقل عن العقد الأول، فلا يصدق عليها أنها بيعتين في بيعة.
أما التفسير الذي اختاره بعض الباحثين المعاصرين، وهو تفسير البيعتين في بيعة بالجمع بين عقدين أو أكثر
إذا أدى هذا الجمع إلى الوقوع في المحذور الشرعي، فيُعترض عليه بأن هذا إبطال لمعنى الحديث، فالحديث على هذا المعنى لم يأتِ بحكم جديد، فالجمع بين العقود إذا أدَّى إلى محذور شرعي فهو محذور ومنهي عنه بالأدلة الأخرى التي تنهى عن الربا، أو الغرر، أو الاستغلال، والأصل في الحديث أن يؤسس حكمًا جديدًا، وعلى افتراض أن هذا الحديث أتى مؤكدًا لحكم موجود، فتأكيد الأحكام يكون بنفس ألفاظ هذه الأحكام، لا بألفاظ بعيدة عنها، تحتاج إلى جهد كبير كي يتبيَّن أن هذه الألفاظ مؤكدة لتلك الأحكام.
التوقيع لا يظهر للزوار ..
التوقيع لا يظهر للزوار ..
قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
النهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان ، هل يجوز الصيام بعد نصف شعبان | أم أمة الله | فتاوي وفقه المرأة المسلمة | 1 | 27-04-2019 12:49 AM |
قراءة كتاب سنن النسائي تأليف النسائي pdf مجانا ضمن تصنيف كتب علوم الحديث. | دوما لك الحمد | كتب اسلامية | 5 | 23-05-2018 06:06 PM |
دعوة لتصحيح المفاهيم المخالفه للعقيدة ج3,عبارات منهي عنها | جنا حبيبة ماما | الحملات الدعوية | 8 | 21-01-2017 11:39 PM |
كلمات نحسبها دعاء وهى علينا بلاء | رحيق الفردوس | المنتدي الاسلامي العام | 8 | 13-07-2012 04:53 AM |
كلمات نحسبها دعاء.. وهي............... | ايمان المقصبي | المنتدي الاسلامي العام | 6 | 04-11-2011 07:32 AM |
جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع