أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي آيات ظاهرها التعارض 5


فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم


السلم والسلام والإسلام مصطلحات مركزية في القرآن الكريم، دعا إليها، ورفع من شأنها، ووجه الأنظار إليها؛ فنحن نقرأ بخصوص دعوة المؤمنين إلى الالتزام بأحكام الإسلام جميعها، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة:208)؛ ونقرأ في صفة القرآن الكريم بأنه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة:16)، ونقرأ أيضاً دعوته سبحانه لعباده المؤمنين، أن يجدُّوا في العمل، ويكدوا في السعي من أجل دار باقية، لا من أجل دار فانية، ويقول في وصف تلك الدار: {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس:25)، علاوة على أن (السلام) اسم من أسماء الله تعالى.

وإذا وجهنا أنظارنا تلقاء ساحات القتال، ومواطن النـزال، ومخابر الرجال، وجدت خطاب القرآن يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} (الأنفال:61) فالآية خطاب عام بالدعوة إلى الاستجابة للسلم، إذا ما طلبه الخصم.

ثم إننا نقرأ خطاباً من نوع آخر في القرآن، يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} (محمد:35)، وهذا الخطاب ينهى المؤمنين عن الاستكانة للعدو، ومسالمته، ويخبر أن النصر مع المؤمنين إن صدقوا الله في جهادهم لأعدائهم.

إذن، نحن أمام خطابين قرآنيين، وإن شئت قل: أمام نصين قرآنيين؛ أحدهما: يدعو المؤمنين إلى الاستجابة إلى نداء السلم، والدخول في المسالمة، وقبول الصلح؛ وثانيهما: ينهي المؤمنين عن الضعف الاستكانة والمسالمة. ولا يخفاك ما يبدو من تعارض بين الآيتين على النحو الذي قررناه آنفاً.

وقد توقف المفسرون عند الآيتين الكريمتين، وذكروا أن الآيتين من حيث الظاهر متعارضتان؛ وكان لهم مسلكان في دفع هذا التعارض:

المسلك الأول: يرى أصحاب هذا المسلك أن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، منسوخ بالآيات الآمرة بجهاد الكفار وقتالهم، كقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة:29)، وقوله سبحانه: {وقاتلوا المشركين كافة} (التوبة:36)، ونحو ذلك من الآيات الداعية إلى قتال أهل الكفر والعناد. ومن القائلين بالنسخ: قتادة وعكرمة والحسن البصري وبعض التابعين.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشدُّ من أزر هذا القول، وذلك فيما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، قال: نسختها هذه الآية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}.

المسلك الثاني: يرى أن الآيتين محكمتان، ولا نسخ بينهما، بل كل آية منهما تتحدث عن حالة غير الحالة التي تتحدث عنها الآية الأخرى، وبالتالي يكون لكل حالة حكم مغاير عن حكم الحالة الأخرى، وإن كان المفسرون يختلفون وراء ذلك في توجيه الآيات، وبيان الحالات؛ فمنهم من قال: إن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، يتحدث عن حالة يكون فيها المسلمون في موقع قوة، وسيطرة على مجريات الأمور، فإذا طلب الأعداء - والحالة كذلك - السلم من المسلمين، فإن على المسلمين أن يستجيبوا لهم، ويعطوهم ما طلبوا من سلم ومسالمة.

أما قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}، فيتحدث عن حالة يطلب المسلمون فيه السلم من الأعداء ابتداء، فهذا الذي نهت عنه الآية، وطلبت من المؤمنين ألا يدعوا المشركين إليه، بل عليهم أن يُعدُّوا العُدة، ويتأهبوا لملاقاة الأعداء، ويطلبوا العون من الله، فإنه ناصرهم لا محال.

إذن، لما كان مورد الآيتين مختلفاً، فقد استدعى ذلك اختلافاً في الحكم، دون أن يعني ذلك تعارضاً بين الآيتين؛ لاختلاف الحالتين، واختلاف الموردين اللذَيْن تتحدث عنهما كل آية.

وللعلم، فإن دعوة المسلمين الكفار إلى الصلح ابتداء -كما يذكر الطبري- لم يرد لها ذكر في القرآن، وإنما الذي ورد أن يجنحوا للسلم، إن طلب منهم الكفار ذلك.

هذا، وقد رد الطبري قول القائلين بالنسخ فقال ما حاصله: ومن قال بأن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سُنَّة، ولا فطرة عقل.

ومع أن الطبري نفى أن يكون ثمة نسخ بين الآيتين، إلا أنه -كما يُفهم من كلامه- يذهب إلى أن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} نص خاص عنى به بني قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله سبحانه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب، ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم، وروى عن مجاهد: {وإن جنحوا للسلم}، قال: قريظة.

ومنهم من نفى أن يكون بين الآيتين نسخ أو تخصيص، وإنما كل آية يُعمل بها في موضعها؛ ومحصل هذا التوجه كما يفيده كلام ابن كثير: أن الأصل قتال أهل الشرك، إذا أمكن ذلك، والعمل بهذا يكون على وفاق قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}؛ أما إن كان المسلمون في حالة ضعف، بحيث لا يمكنهم قتال المشركين، فإنه - والحالة كذلك - يجوز مهادنتهم، ولو لم يطلب المشركين الصلح. وعلى هذا - بحسب ابن كثير - لا منافاة، ولا نسخ، ولا تخصيص بين الآيتين؛ فإحداهما: تقرر ما هو الأصل، وهو القوة؛ والأخرى: تقرر ما هو الاستثناء، وهو حال الضعف.

وقريب مما ذهب إليه ابن كثير، ما ذهب إليه الشوكاني، مع شيء من الاختلاف في التوجيه، حيث قرر الشوكاني أنه "لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداء، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص".

ومن الملاحظ أن أصحاب المسلك الثاني، قد اتفقوا على أن الآيتين محكمتان، وألا نسخ بينهما مطلقاً؛ غير أنهم افترقوا بعض الشيء في توجيه الآيتين؛ فالطبري ذهب إلى أن آية الأنفال خاصة، وابن كثير لم ير التخصيص، ووجه الآيتين على أساس حالة المسلمين من القوة والضعف؛ والشوكاني وجَّه الآيتين على أساس الابتداء في طلب السلم وعدمه.

فتحصل مما تقرر في هذا المسلك، أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه في قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}، إنما هو طلب السلم والمسالمة من العدو في حال قدرة المسلمين، وخوف العدو منهم، فالنهي عن السلم هنا مقيد بكون المسلمين داعين له، وبكونهم في حالة قوة ومَنَعة، بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة؛ أما السلم الوارد في قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، فإنه سِلْم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لتلك ولا العكس، ولكلٍّ حالة خاصة.

بقي أن نشير هنا إلى أمرين، بهما تحصل الفائدة:

الأول: أن السلم الذي دعت إليه الآية القرآنية -آية الأنفال- إنما هو سلم يكون مع أقوام لم يكونوا قد احتلوا البلاد، وأذلوا العباد، وإنما مع أقوام يُقيمون في ديارهم، وجرى بينهم وبين المؤمنين قتال لسبب من الأسباب. وإن شئت قل: إن آية الأنفال تنطبق على العدو الذي يكون له أرض ودولة خاصة به منذ الأصل؛ أما من احتل أرض غيره، ثم دعا إلى سلام ومسالمة، فلا ينطبق عليه حكم الآية المشار إليها، ولا يصح عليه معنى الجنوح إلى السلم، إلا إذا صحت مصالحة المسروق للص السارق!

الثاني: أنه سبحانه قال: {وإن جنحوا للسلم}، ولم يقل: (وإن طلبوا السلم) فأجبهم إليها، للتنبيه على أن الأعداء لا يجابون إلى السلم، إلا إذا عُلم من حالهم الرغبة فيه؛ لأنهم قد يُظهرون الميل إلى السلم كيداً أو خدعة، وعندئذ فلا ينبغي أن يجابوا إليه. وهذا مستفاد من دلالة الفعل ( جنح ). أفاده ابن عاشور.

<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<



لن ضره أقرب من نفعه




في سياق حديث القرآن الكريم عن فريق من الناس يعبدون الله على تردد وتشكك، يذكر سبحانه من صفات هذا الفريق أنه: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} (الحج:12)، ثم يبين عز وجل أن هؤلاء المدعوين ضررهم أكثر من نفعهم، فيقول تعالى: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} (الحج:13).

وهاتان الآيتين الكريمتان قد يبدو بينهما للوهلة الأولى شيء من التعارض والتناقض؛ وذلك أن الآية الأولى نفت أن يكون لهؤلاء المدعوين أي تأثير فيمن يدعونهم نفعاً أو ضراً؛ بالمقابل فإن الآية الثانية أثبتت لهؤلاء المدعوين شيئاً من التأثير، حيث قررت أن ضرهم أكثر من نفعهم، ومفهوم هذا أنهم يملكون ضراً ونفعاً؛ لأن صيغة التفضيل في قوله: {أقرب} دلت على أن هناك نفعاً وضراً، ولكن الضر أقرب من النفع. غير أن المعبود من دون الله، ليس فيه نفع البتة، حتى يقال فيه: إن ضره أقرب من نفعه. فهذا وجه التعارض بين الآيتين. فكيف التوفيق بينهما؟

يذكر المفسرون أجوبة عديدة في التوفيق بين الآيتين، نختار منها ما ذكره الرازي وما ذكره أبو حيان ، ففيما ذكراه بيان لما هو مطلوب، وغَناء عما سواهما:

أما الرازي فقد وفَّق بين الآيتين بأمور ثلاثة، نذكر منها اثنين:

أحدهما: أن الأصنام لا تضر بأنفسها ولا تنفع، ولكن عبادتها سبب الضرر؛ وذلك كافٍ في إضافة الضرر إليها، كقوله تعالى: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} (إبراهيم:36)، فأضاف الإضلال إلى الأصنام من حيث كانوا سبباً للضلال. وهكذا هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر. وعليه، فإن الضر والنفع المنفيين في الآية الأولى ما يكون بطريق المباشرة، أما الضر والنفع المثبتين في الآية الثانية ما يكون بطريق التسبب.





وتأسيساً على هذا التوجيه، فإن إثبات الضر والنفع للمدعوين، ليس على سبيل الحقيقة، وإنما هو على سبيل الإضافة، كما نقول: هذا مال فلان. فنسبة الملك لفلان إنما هي نسبة إضافية، وليست حقيقية؛ لأن المالك الحقيقي للمال هو الله سبحانه، قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (النور:33).

ثانيهما: أن إضافة النفع والضر إلى هؤلاء المدعوين، إنما هو على سبيل الافتراض، ومسايرة الخصم في المجادلة، فكأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع، ثم قال في الآية الثانية: لو سلمنا كونها ضارة نافعة، لكان ضررها أكثر من نفعها. وعلى هذا، فإن الضر والنفع المنفيين هما الحقيقيان، والضر والنفع المثبتان هما الافتراضيان.

أما أبو حيان فقد وفق بين الآيتين بما حاصله: أن الآية الأولى واردة في الذين يعبدون الأصنام، فالأصنام لا تنفع مَن عَبَدها، ولا تضر من كفر بها؛ ولذا قال فيها: {ما لا يضره وما لا ينفعه}، والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام، هي التعبير بحرف (ما) في قوله {ما لا يضره وما لا ينفعه}؛ لأن هذا الحرف يأتي لما لا يعقل، والأصنام لا تعقل.

أما الآية الأخرى فهي فيمن عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله، كفرعون القائل: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص:38)، والقائل: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء:29)، والقائل: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات:24)، فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نِعَم الدنيا على عابديهم؛ ولذا قال له سحرته: {أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين} (الشعراء:41-42)، فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه، من العذاب والخلود في النار، لا يساوي شيئاً يذكر، فضرُّ هذا المعبود بخلود عباده في النار، أقرب من نفعه، بعَرَض قليل زائل من حطام الدنيا. والقرينة على أن المعبود في هذه بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء: هي التعبير بالحرف (مَن)، الذي يأتي لمن يعقل في قوله: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه}.

هذا، وقد عقب الشيخ الشنقيطي على جواب أبي حيان بقوله: وله اتجاه. وهذا تصويب من الشيخ لما ذهب إليه أبو حيان.

ومن متممات الحديث عن هاتين الآيتين، أن إيراد صيغة التفضيل في قوله سبحانه: {أقرب من نفعه}، مع عدم النفع بالمرة؛ للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي، وللتهكم بحال المدعوين الذي لا يملكون من أمرها شيئاً.

وبناء على ما تقدم، يتضح ألا تعارض في الحقيقة بين الآيتين، بل كل واحدة منهما كاشفة عن وجه المقصود، ومبينة أن الضار والنافع في المحصلة هو الله سبحانه، وأن الأصنام - سواء أكانت بشرية أم حجرية - لا نفع فيها بحال من الأحوال، بل هي ضرر بحت لمن يعبدها.








اسلام ويب






قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
آيات ظاهرها التعارض4 امانى يسرى القرآن الكريم
آيات ظاهرها التعارض 3 امانى يسرى القرآن الكريم
آيات ظاهرها التعارض 2 امانى يسرى القرآن الكريم
آيات ظاهرها التعارض امانى يسرى القرآن الكريم
حكم تخصيص قراءة آيات معينة لعلاج المسحور وغيره أم أمة الله الرقية الشرعية والسحر


الساعة الآن 11:32 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل