بهذا الأصل العظيم - بالعقيدة الصحيحة - تميزت تلك المجموعة المؤمنة الذين عاشوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهلوا من المنبع الأصيل للوحي، وأخذوا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرح الوحي السماوي بوجوب طاعته، وهو الصادق المصدوق محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي لا ينطق عن الهوى ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [سورة النجم: 4].
تميزت تلك الفئة المؤمنة التي أثنى الله تبارك وتعالى عليها في التوراة والإنجيل والقرآن، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، إذ قال "خير الناس قرني" فلم يأتِ بعدهم أحد يساويهم في إيمانهم وأعمالهم وآرائهم، وكيف يساويهم وكان أحدهم يرى الرأي، فينـزل القرآن بموافقته، كما رأى الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أسارى بدر أن تُضرب أعناقهم، فنـزل القرآن بموافقته ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة الأنفال: 67 - 68].
ورأى أن تُحجَبَ نساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنـزل القرآن بموافقته ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [سورة الأحزاب: 53].
ورأى أن يُتَّخَذَ من مقام إبراهيم مُصَلّى، فنـزل القرآن بموافقته ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [سورة البقرة: 125].
وقال لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعن في الغَيْرة عليه ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [سورة التحريم: 5]، فنـزل القرآن بموافقته.
ولما توفي عبدالله ابن أُبَيّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، وقال يا رسول الله: إنه منافق، فصلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأنـزل الله عليه موافقة قول عمر ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [سورة التوبة: 84].
بهذا الأصل العظيم - بهذه العقيدة الصحيحة - تَخَرَّجَ أبطال من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلوا من الأعاجيب ما لم يَقْوَ عليه غيرهم، لقد حرصوا على الموت في سبيل الله حِرْصَ الناس على الحياة.
لقد انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون ودنوا من المسلمين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" فقام عُمير بن الحُمام الأنصاري - رضي الله عنه - وقال: "يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "نعم"، قال: "بخٍ بخٍ" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟"، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة". فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل المشركين حتى قُتِلَ - رضي الله عنه -.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "غاب عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غِبْتُ عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع".
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحُد - قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه - قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نـزلت فيه وفي أشياعه: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [سورة الأحزاب: 23]. [متفق عليه].
وروى ابن إسحاق أن زيد بن حارثة في غزوة مؤتة سنة 8هـ قاتل براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح القوم (أي سال دمه حتى مات)، فأخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها، فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بشماله فقطعت، فاحتضن اللواء بعضديه حتى قتل - رضي الله عنه - وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
فأخذ اللواء بعده عبدالله بن رواحة، ثم تقدم وهو على فرسه يقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صَليتِ
وما تمنيت قد أعطيتِ
إن تفعلي فعلهما هديتِ
يريد صاحبيه زيدًا وجعفرًا فقاتل حتى قتل.
وهذا خبيبُ بن عدي في سرية الرجيع غدر به مع أصحابه بعد أن أوثقوه وصلبوه وقتلوه لم يجزع ولم يهن، ولم يستكن، بل أقدم على القتل في شجاعة وإقدام وهو يقول:
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذاري جحم نار ملفع
فو الله ما أرجو إذا مت مسلمًا
على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعًا
ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
هذه الصور المشرفة التي لا نجد لها في عالمنا اليوم مثيلًا، تلك الصور إنما هي من آثار العقيدة الصحيحة التي ملأت قلوب أولئك الأصحاب الأبرار، - رضي الله عنه -م أجمعين.
إن العقيدة إذا سلمت سلم العمل والسلوك، وإذا فسدت فسد العمل والسلوك، ويؤكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة فيقول: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وإذا تقرر أن العقيدة الصحيحة أساس سلامة العمل، فإنها كالطاقة للآلة، لا تندفع إلا إذا مُدت بهذه الطاقة، وتكون قوة حركة الآلة بقدر قوة الطاقة التي تحركها.
كذلك حركة الجسم نحو تنفيذ أمر الله تعالى تكون بقدر قوة العقيدة التي تحركه.
منقوووووووووول