أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي الفرق بين هداية الدلالة وهداية المعونة(وَمَن يَهْدِٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتد


تفسير الشيخ الشعراوي


(وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً )٩٧-الإسراء

سبق أنْ قُلْنا: إن الهداية نوعان:
هداية الدلالة المطلقة والتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر، فقد دَلَّ الله المؤمن والكافر على الطريق المستقيم وبيَّنه لهم وأرشدهم إليه.
والأخرى:
هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به، وهذه خاصّة بالمؤمن، فبعد أنْ دَلَّه الله آمن وصدَّق واعترف لله تعالى بالفضل والجميل، بأن أنزل له منهجاً ينظم حياته. فأتحفه الله تعالى بهداية التوفيق والمعونة.
وعن الهداية يقول الحق سبحانه: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ .. } [فصلت: 17].
أي: دَلَلْناهم على الطريق المستقيم، لكنهم استحبُّوا العمى والضلال على الهدى، فمنع الله عنهم معونته وتوفيقه.

والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بأسلوبين قرآنيين يوضِّحان هذيْن النوعيْن من الهداية،
يقول تعالى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ .. } [القصص: 56].
فنفى عن رسول الله هداية التوفيق والمعونة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملكها،
وفي آية أخرى قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52].
فأثبتَ له هداية البيان والدلالة؛ لأن هذه هي مهمته كمبلِّغ عن الله، وهكذا أثبتَ له الحدث ونفاه عنه؛ لأن الجهة مُنفكَّة أي: أن جهة الإثبات غير جهة النفي، كما في قوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الروم: 6-7].




فمرة: نفَى عنهم العلم، ومرة أخرى: أثبتَ لهم العلم. والمراد أنهم لا يعلمون حقائق الأمور، ولكنهم يعلمون العلوم السطحية الظاهرة منها. ونحن نكرّر مثل هذه القضايا لكي تستقرّ في النفس الإنسانية، وفي مواجيد المتدينين فينتفعوا بها.

ومن ذلك أيضاً قول الحق سبحانه: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ .. } [الأنفال: 17].
فأثبت للرسول رَمْياً، ونفى عنه رَمْياً، لكن إذا جاء هذا الكلام من بليغ حكيم فاعلم أن الجهة مُنفكّة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أخذ حَفْنة من التراب ورمى بها نحو أعدائه، وهذا هو الرّمْي الذي أثبتته الآية، وقد تولَّتْ القدرة الإلهية إيصال ذرات هذه الحفنة إلى عيون الأعداء، فأصابتهم جميعاً وشغلتْهم عن القتال، وهذا هو الرَّمْي الذي نفاه الحق عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولتقريب هذه المسألة: ابنك الذي تحمله على المذاكرة وتُرغمه عليها يأتي بالكتب ويضعها أمامه ويُقلِّب فيها ليوهمك أنه يذاكر، فإذا ما راجعت معه ما ذاكر لا تجدْه حصَّل شيئاً فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرت، فتُثبِت له الحدث مرة، وتنفيه عنه أخرى؛ لأنه ذاكر شكلاً، ولم يذاكر موضوعاً.

إذن: فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة، ويختص مَنْ آمن بهداية المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج، كما قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17].
وقال عن الآخرين: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الصف: 7] لكن يهدي العادلين.
وقال: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [الصف: 5] .. لكن يهدي الطائعين.
وقال: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 264] .. لكن يهدي المؤمنين.
إذن: بيَّن الحق سبحانه في أساليب القرآن مَنْ شاء هدايته، أما مَنْ آثر الكفر وصمم ألاَّ يؤمن فهو وشأنه، بل ويزيده الله من الكفر ويختم على قلبه، كما قال تعالى: { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110].

نعود إلى { مَن } في قوله تعالى: { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ .. } [الإسراء: 97] قلنا: إن (مَن) اسم موصول بمعنى الذي، واستخدام (مَن) كاسم موصول لا يقتصر على (الذي) فقط، بل تستخدم لجميع الأسماء الموصولة: الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين، اللاتي. فتقول: مَنْ جاءك فأكرِمْه، ومَنْ جاءتك فأكرمْها، ومَنْ جاءاك فأكرمهما، ومَنْ جاءتاك فأكرمهما، ومَنْ جاءوك فأكرمهم، ومَنْ جِئْنَكَ فأكرمْهُن.
فهذه ستة أساليب تؤديها (مَن) فهي - إذن - صالحة للمذكّر وللمؤنّث وللمفرد وللمثنى وللجمع، وعليك أن تلاحظ (مَنْ) في الآية: { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ .. } [الإسراء: 97] جاءت (مَنْ) دالَّة على المفرد المذكر، وهي في نفس الوقت دالّة على المثنى والجمع المذكر والمؤنث، فنقول: مَنْ يهدِهَا الله فهي المهتدية، ومَنْ يهدهم الله فهم المهتدون. وهكذا.
ونسأل: لماذا جاءت (مَنْ) دالة على المفرد المذكر بالذات دون غيره في مجال الهدى، أما في الضلال فجاءتْ (مَنْ) دالَّة على الجمع المذكّر؟
نقول: لأنه لاحظ لفظ (مَنْ) فأفرد الأولى، ولاحظ ما تطلق عليه (من) فجمع الثانية: { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ .. } [الإسراء: 97].

وهنا مَلْحظ دقيق يجب تدبُّره: في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد: { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ .. } [الإسراء: 97] لأن للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير، هو منهج الله تعالى وصراطه المستقيم، فللهداية طريق واحد أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" .
أما في الضلال، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع: { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ .. } [الإسراء: 97] لأن طرق الضلال متعددة ومناهجه مختلفة، فللضلال ألف طريق، وهذا واضح في قول الحق سبحانه: { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ .. } [الأنعام: 153].
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية خَطَّ للصحابة خَطّاً مُسْتقيماً، وخَطَّ حوله خطوطاً مُتعرّجة، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال: "هذا ما أنا عليه وأصحابي" .

إذن: الهداية طريق واحد، وللضلال أَلْف مذهب، وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضلال لوجدتَ لهم في ضلالهم مذاهب، ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلال. فعليك أنْ تقرأ هذه الآية بوعي وتأمُّل وفَهْم لمراد المتكلّم سبحانه، فلو قرأها غافل لَقال: فلن تجد له أولياء من دونه، ولأتبع الثانية الأولى.
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه.

وقوله: { أَوْلِيَآءَ } أي: نُصَراء ومعاونين ومُعينين { مِن دُونِه } أي: من بعده { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ .. } [الإسراء: 97].
الحشْر: القيام من القبور والجمع للحساب { عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } هنا تعجب بعض الصحابة، فسألوا رسول الله: وكيف يسير الإنسان على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يُمشيهم على وجوههم" .

وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الله: { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ .. } [النور: 45].
ألم تَرَ الثعبان، كيف هو سريع في مِشْيته، خفيف في حركته، فالذي خلق قادر أن يُمشِيَ من ضَلَّ في القيامة على بطنه، لأن المسألة إرادة مريد لِيُوقع بهم غاية الذِّلَّة والهوان، ويا ليتهم تنتهي بهم المهانة والمذلّة عند هذا الحدِّ، بل: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً .. } [الإسراء: 97].
هذا استطراق لوسائل الإهانة، ففضلاً عن مَشْيهم على الوجوه فهم عُمْي لا يروْنَ شيئاً، ولا يهتدون، وهم صُمٌّ لا يسمعون نداءً، وهم بُكْمٌ لا يقدرون على الكلام، ولك أنْ تتصوَّر إنساناً جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عادي، بل في يوم البعث والنشور، فإذا به يُفَاجأ بهْول البعث، وقد سُدَّت عليه جميع منافذ الإدراك، فهو في قلب هذا الهَوْل والضجيج، ولكنه حائر لا يدري شيئاً، ولا يدرك ما يحدث من حوله.

ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن كثيراً: صُمٌّ بُكْم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا: { وَبُكْماً وَصُمّاً }
ومعلوم أن الصَّمَم يسبق البَكَم؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام، واللغة بنت السماع، وهي ظاهرة اجتماعية ليستْ جنساً وليست دَمَاً.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الولد الإنجليزي إذا تربَّى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس؛ لأن اللغة ليست جنساً، بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. حتى العربي نفسه الذي يعيش في بيئة عربية، إلا أنه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعِّرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها.
لكن في هذه الآية جاء البكَم أولاً، لماذا؟
لأنه ساعة يُفاجأ بهوْلِ البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولاً عَمَّا يحدث، ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه، لكنه فُوجئ بالبعث وأهواله، ولم يستطع حتى الاستفسار عَمَّا حوله، وهكذا سبق البكَم الصَّمَم في هذا الموقف.
وهنا أيضاً اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم مِمَّنْ أسلموا بألسنتهم، ولم تطمئن قلوبهم لنور الله، يقولون: القرآن يقول: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً .. } [الإسراء: 97] فينفي عنهم الرؤية، وفي آيات أخرى يقول: { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ .. } [مريم: 75]. { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا .. } [الكهف: 53].
فأثبت لهم الرؤية، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟
والمتأمل في حال هؤلاء المعذَّبين في موقف البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عُمْياً لِيتحققَ لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصة بهم، وهكذا جمع الله عليهم الذل في الحاليْن: حال العمى وحال البصر.
لذلك يقول تعالى: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].

ثم يقول تعالى: { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97] مأواهم: أي: مصيرهم ونهايتهم. خَبَتْ: خبت النار. أي: ضَعُفَت أو انطفأتْ، لكن ما دام المراد من النار التعذيب، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟
المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب؛ لأن استدامة الشيء يُوطِّن صاحبه عليه، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إِلْف له، فإنْ خَبتِ النار أو هدأتْ فترةً فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت، ثم يُفاجئهم العذاب من جديد، فهذا أنكَى لهم وآلم في تعذيبهم.
وهذا يُسمُّونه في البلاغة "اليأس بعد الإطماع"، كما جاء في قول الشاعر:
فَأصْبَحْتُ مِنْ لَيْلَى الغَداةَ كَقَابِضٍعَلَى المَاء خَانَتْهُ فُرُوجُ الأَصَابِع
وفي السجون والمعتقلات يحدث مثل هذا، فترى السجين يشتد به العطش إلى حَدٍّ لا يطيقه، فيصيح بالحارس ويتحنن إليه ويرجوه كوباً من الماء، فيأتي له بكوب الماء حتى يكون على شَفَتَيْه، ويطمع في أنْ يبلّ ريقه ويطفئ غُلَّته، فإذا بالحارس يسكبه على الأرض، وهذا أنكى وأشدّ في التعذيب.
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:
كَمَا أبرقَتْ قَوْمَاً عِطَاشاً غَمَامَةٌفَلَمَّا رَجَوْهَا أقْشَعَتْ وتَجلَّتِ
أي: ساعة أَنْ رأوْهَا، واستشرفوا فيها الماء إذا بها تنقشع وتتلاشى، وتُخيِّب رجاءهم فيها.
وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنُّها البعض لَوْناً من الراحة في جهنم والعياذ بالله، أن الله تعالى يُبَدِّل جلودهم بجلود أخرى جديدة، لا رحمةً بهم بل نكايةً فيهم، كما قال تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. } [النساء: 56].
لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة. ومنذ عهد قريب كانوا يظنون أن الحسَّ يأتي من المخ، إلا أنهم لاحظوا على الإنسان إحساساً قبل أن يصل شيء للمخ.
فمثلاً: لو أشرت بأصبعك إلى عين إنسان تراه يُغمِض عينه قبل أنْ تلمسه، وفسَّروا ذلك بما يسمونه العكس في النخاع الشوكي، ثم توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟
إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، من أن الجلد هو مركز الإحساس في الإنسان، بدليل أنك إذا أخذتَ حقنة مثلاً، فبمجرد أن تخترق طبقة الجلد لا تشعر بألمها.
فمن أين عرف العرب هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم.
الفرق بين هداية الدلالة وهداية المعونة(وَمَن يَهْدِٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتد
(ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً )٩٨-الإسراء

{ ذَلِكَ } أي: ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت { جَزَآؤُهُم } أي: حاق بهم العذاب عَدْلاً لا ظُلْماً، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة؛ لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم، والذي يعطف قلوب الناس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب.
فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة، وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس، وما تزال نارها تشتعل في القلوب، فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم.

فحين نُؤخِّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شَكَّ أن الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها، وتتلاشى بشاعتها، ويطويها النسيان، فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلاَّ ما يحدث من عقوبته، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه.
إذن: قبل أن تنظر إلى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. } [النساء: 56].
وإلى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97].
انظر إلى ما فعلوه، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله، فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة، ففي سورة النور يقول تعالى: { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 2].

ثم يُوضّح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب: { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا .. } [الإسراء: 98] والآيات تطلق على الآيات الكونية، أو على آيات المعجزات المؤيّدة لِصِدْق الرسول، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام .. وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات، فكفروا بالآيات الكونية، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه، ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يُؤمنوا بما جاءتْ به.
وهذا كله يدلُّ على نقص في العقيدة، وخَلَل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرسول، فدلَّ ذلك على خَلَل في التصديق.
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا: { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [الإسراء: 98] وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو: البعث بعد الموت.
وقوله: { عِظَاماً وَرُفَاتاً .. } [الإسراء: 98] الرفات: هو الفُتَات وَزْناً ومعنىً، وهو: الشيء الجاف الذي تكسّر؛ لذلك جاء الترتيب هكذا: عظاماً ورُفَاتاً؛ لأن جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلا العظام، وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام، وتتفتتْ وتصير رفاتاً، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً.
وقوله تعالى: { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ .. } [الإسراء: 98] والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت؟
نقول: لأن الكافر عنده لَدَدٌ في ذات إيمانه، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث، وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الآخرة سادة، كما كانوا سادةً في الدنيا. وهؤلاء القوم يفهمون الحياة على ظاهرها، فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها، وبها يعيشون حياتهم هذه، ولا يدركون أن لكل شيء حياةً تناسبه.
فمثلاً: علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون: إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغّير بمرور الزمن، وتتحول إلى موادّ أخرى، إذن: ففيها حركة وتفاعل أو قُلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء.

فالإنسان الحيّ مثلاً له في مظهرية أموره حالتان: حالة النوم وحالة اليقظة، فحياته في النوم محكومة بقانون، وحياته في اليقظة محكومة بقانون، هذا وهو ما يزال حياً يُرزَق، إذن: عندما نخبرك أن لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أنْ تُصدِّق.
ألم تَرَ النائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرؤيا، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة، هو أيضاً يرى الرؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك، يقول: رأيتُ كذا وكذا، كيف وهو في اليقظة لا يرى؟
نقول: لأن للنوم قانوناً آخر، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة. أَلاَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكاً مسروراً، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة مُحزِنة يصحو فيها مُكدّراً محزوناً، ولا يدري الواحد منهم بأخيه ولا يشعر به، لماذا؟
لأن لكل منهما قانونه الخاص، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد.

وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان، مما يدلُّ على أن الزمن في النوم مُلْغى، كما أن أدوات الإدراك ملغاة، إذن: فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة، وكذلك في الموت لك حياة، وفي البعث لك حياة، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها.
وقد يقول قائل عن الرُّؤَى: إنها مجرد تخيُّلات لا حقيقةَ لها، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاماً، أو شرب شراباً ما يزال طَعْمه في فمه، وآخر ضُرِب، ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلاً، وآخر يصحو من النوم يتصبَّب عَرقاً، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت.
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات، والمراد بها: إذا كانت اليقظة لها قانون، والنوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة، فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم، وللبعث قانون أخفّ من قانون الموت.
وقد حَسَم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ .. } [القصص: 88].
أي: كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي، والهلاك ضدّه الحياة، بدليل قوله تعالى: { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ .. } [الأنفال: 42].
إذن: لكل شيء مهما صَغُر في كَوْن الله حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك.

ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوةَ تجاذب بين ذراتها، تصلح هذه القوة لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات، سبحان الله .. أين هذه القوة؟ إنها موجودة لكِنّنا لا نشعر بها ولا ندركها، إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملاحظة مثل هذه الحركة وتسجيلها.
وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلَّمناها منذ الصِّغَر والتي تعتمد على ترتيب الذرّات ترتيباً مُعيناً، ينتج عنه المُوجَب والسالب، فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها بُرادَة الحديد في أنبوبة، ويُمَرِّرون عليها قضيباً مُمغْنَطاً، فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب.
إذن: في الحديد حركة وحياة بين ذراته، حياة تناسبه بلغتْ من الدقة مَبْلَغاً فوق مستوى إدراكك.
إذن: نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياةً، ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أنْ صِرْتَ رُفاتاً، فشيء منك موجود يمكن أن يكون نواةً لخلْقِك من جديد، وبمنطق هؤلاء المنكرين أيهما أهوَنْ في الخَلْق: الخَلْق من شيء موجود، أم الخَلْق ابتداءً؟
وقد رَدَّ عليهم الحق سبحانه بقوله: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4].
أي: في علمه سبحانه عدد ذرات كل مِنّا، وكم في تكوينه من مواد، لا ينقص من ذلك شيء، وهو سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى، وليس أمره تعالى متوقفاً على العلم فقط، بل عنده كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل، ولا يغيب عنه شيء.
وقال تعالى كذلك في الرد عليهم: { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15] أي: في خَلْط وشَكٍّ وتردُّد.
وقد ناقشنا مِنْ منكري البعث الشيوعيين الذين قتَّلوا في أعدائهم، وأخذوا أموالهم مُعاقبةً لهم على ما اقترفوه من ظلم الناس، فكنت أقول لهم: فما بال الذين ماتوا من هؤلاء، ولم يأخذوا حظّهم من العقاب؟ وكيف يذهبون هكذا ويُفلتون بجرائمهم؟ لقد كان الأَوْلَى بكم أنْ تؤمنوا بالآخرة التي يُعاقب فيها هؤلاء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا، حتى تتحقق عدالة الانتقام.
وقوله تعالى: { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [الإسراء: 98].
إنهم يستبعدون البعث من جديد؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم، فيقول: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ .. } [الروم: 27].
فإعادة شيء كان موجوداً أسهلُ وأهونُ من إيجاده مِنْ لا شيء، والحديث هنا عن بَعْث الإنسان، هذا المخلوق الذي أبدعه الخالق سبحانه، وجعله سيد هذا الكون، وجعل عمره محدوداً، فما بالكم تنشغلون بإنكار بعث الإنسان عن باقي المخلوقات وهي أعظم في الخَلْقِ من الإنسان، وأطول منه عُمراً، وأثبت منه وأضخم.
فلا تَنْسىَ أيها الإنسان أن خَلْقك أهونُ وأسهلُ من مخلوقات أخرى كثيرة هي أعظم منك، ومع ذلك تراها خاضعة لله طائعة، لم تعترض يوماً ولم تنكر كما أنكرت، يقول تعالى: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ .. } [غافر: 57].

فمَنْ ينكر بَعْث الإنسان بعد أن يصير رفاتاً عليه أن يتأمل مثلاً الشمس كآية من آيات الله في الكون، وقد خلقها الله قبل خَلْق الإنسان، وستظل إلى ما شاء الله، وهي تعطي الضوء والدفء دون أنْ تتوقف أو تتعطّل، ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، وهي تسير بقدرة الخالق سبحانه مُسخَّرة لخدمتك، ما تخلَّفتْ يوماً ولا اعترضتْ. فماذا يكون خَلْقك أنت أيها المنكر أمام قدرة الخالق سبحانه؟
نداءالايمان






الساعة الآن 07:32 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل