" ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ " أي: أمورهم الماضية والمستقبلة, فلا خروج لهم عن علمه, كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.
ومن جزئيات وصفهم, بأنهم لا يسبقونه بالقول, وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه, فإذا أذن لهم, وارتضى من يشفعون فيه, شفعوا فيه.
ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل, إلا ما كان خالصا لوجهه, متبعا فيه الرسول.
وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة, وأن الملائكة يشفعون.
" وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " أي: خائفون وجلون, قد خضعوا لجلاله, وعنت وجوههم لعزه وجماله.
" أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون "
فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية, ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك - ذكر أيضا أنه لا حظ لهم, من الألوهية, ولا بمجرد الدعوى, وأن من قال منهم: " إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ " على سبيل الفرض والتنزل " فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " .
وأي: ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص, الفقير إلى الله من جميع الوجوه مشاركته الله في خصائص الإلهية والربوبية؟!!
" وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون "
أي: أو لم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم, وجحدوا الإخلاص له في العبودية, ما يدلهم دلالة مشاهدة, على أنه الرب المحمود الكريم المعبود.
فيشاهدون السماء والأرض فيجدونهما رتقا: هذه ليس فيها سحاب ولا مطر.
وهذه هامدة ميتة, لا نبات فيها, ففتقناهما: السماء بالمطر, والأرض بالنبات.
أليس الذي أوجد في السماء السحاب, بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه.
وأودع فيه الماء الغزير, ثم ساقه إلى بلد ميت; قد أغبرت أرجاؤه, وقحط عنه ماؤه.
فأمطره فيها, فاهتزت, وتحركت, وربت, وأنبتت من كل زوج بهيج, مختلف الأنواع, متعدد المنافع.
أليس ذلك دليلا على أنه الحق, وما سواه باطل, وأنه محيي الموتى, وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال " أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " أي: إيمانا صحيحا, ما فيه شك ولا شرك.
" وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون "
ثم عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال: " وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ " إلى " فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " .
أي: ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته, أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال, أرساها بها وأوتدها, لئلا تميد بالعباد, أي: لئلا تضطرب, فلا يتمكن العباد من السكون فيها, ولا حرثها, ولا الاستقرار بها.
فأرساها بالجبال, فحصل بسبب ذلك, من المصالح والمنافع, ما حصل.
ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض, قد اتصلت اتصالا كثيرا جدا, فلو بقيت بحالها, جبالا شامخات, وقللا باذخات, لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان.
فمن حكمة الله ورحمته, أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا.
أي: طرقا سهلة لا حزنة.
لعلهم يهتدون إلى الوصول, إلى مطالبهم من البلدان.
ولعهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان.
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون "
" وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا " للأرض التي أنتم عليها " مَحْفُوظًا " من السقوط " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا " محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع.
" وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ " أي: غافلون لاهون,: هذا عام في جميع آيات السماء, من علوها, وسعتها, وعظمتها, ولونها الحسن, وإتقانها العجيب, وغير ذلك من المشاهد فيها, من الكواكب الثوابت, والسيارات, وشمسها, وقمرها النيرات, المتولد عنهما, الليل والنهار, وكونهما دائما في فلكهما سابحين, وكذلك النجوم.
فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد, والفصول, ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملاتهم, ويستريحون في ليلهم, ويهدأون ويسكنون وينتشرون في نهارهم, ويسعون في معايشهم.
كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب, وأمعن فيها النظر, جزم حزما لا شك فيه, أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم, إلى أجل محتوم, يقضي العباد منها مآربهم, وتقوم بها منافعهم, وليستمتعوا وينتفعوا.
ثم بعد هذا, ستزول وتضمحل, ويفنيها الذي أوجدها, ويسكنها الذي حركها.
وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار, يجدون فيها جزاء أعمالهم, كاملا موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار, وأنها منزل سفر, لا محل إقامة.
" كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون "
لما كان أعداء الرسول يقولون " نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ " قال الله تعالى: هذا طريق مسلوك ومعبد, منهوك, فلم نجعل لبشر " مِنْ قَبْلِكَ " يا محمد " الْخُلْدِ " في الدنيا.
فإذا مت, فسبيل أمثالك, من الرسل والأنبياء, والأولياء.
" أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ " أي: فهل إذا مت خلدوا بعدك.
فليهنهم الخلود إذا, إن كان, وليس الأمر كذاك, بل كل من عليها فان.
ولهذا قال: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق, وإنا هذا كأس لابد من شربه وإن طال بالعبد المدى, وعمر سنين.
" وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون "
ولكن الله تعالى, أوجد عباده في الدنيا, وأمرهم, ونهاهم, وابتلاهم بالخير والشر, وبالغنى والفقر, والعز والذل والحياة والموت, فتنة منه تعالى " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو.
" ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " فنجازيكم بأعمالكم, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر " وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " .
وهذه الآية, تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر, وأنه مخلد في الدنيا.
فهو قول, لا دليل عليه, ومناقض للأدلة الشرعية.
" خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون "
وهذا من شدة كفرهم, فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, استهزأوا به وقالوا: " أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ " .
أي: هذا المحتقر بزعمهم, الذي يسب آلهتكم ويذمها, ويقع فيها, أي: فلا تبالوا به, ولا تحتفلوا به.
هذا استهزاؤهم واحتقارهم له, بما هو من كماله, فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه, إخلاص العبادة لله, وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه, وذكر محله ومكانته.
ولكن محل الازدراء والاستهزاء, هؤلاء الكفار, الذين جمعوا كل خلق ذميم.
ولو لم يكن إلا كفرهم بربهم, وجحدهم لرسله فصاروا بذلك, من أخساء الخلق وأراذلهم, ومع هذا, فذكرهم للرحمن, الذي هو أعلى حالاتهم, كافرون به, لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك, فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال: " وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ " وفي ذكر اسمه " الرَّحْمَنِ " هنا, بيان لقباحة حالهم, وأنهم كيف قابلوا الرحمن - مسدي النعم كلها, ودافع النقم الذي, ما بالعباد من نعمة إلا منه, ولا يدفع السوء إلا هو- بالكفر والشرك.
" ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين "
" خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ " أي: خلق عجولا, يبادر الأشياء, ويستعجل وقوعها.
فالمؤمنون, يستعجلون عقوبة الله للكافرين, ويستبطئونها.
والكافرون, يتولون ويستعجلون بالعذاب, تكذيبا وعنادا, ويقولون:
" لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون "
" مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " والله تعالى, يمهل ولا يهمل ويحلم, ويجعل لهم أجلا مؤقتا " فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " .
ولهذا قال: " سَأُرِيكُمْ آيَاتِي " أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني " فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ " ذلك.
وكذلك الذين كفروا يقولون: " مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " قالوا هذا القول, اغترارا, ولما يحق عليهم العقاب, وينزل بهم العذاب.
" بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون "
فـ " لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " حالهم الشنيعة " حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ " إذ قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " أي: لا ينصرهم غيرهم, فلا نصروا ولا انتصروا.
" ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون "
" بَلْ تَأْتِيهِمْ " النار " بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ " من الانزعاج والذعر والخوف العظيم.
" فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا " إذ هم أذل وأضعف, من ذلك.
" وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ " أي: يمهلون, فيؤخر عنهم العذاب.
فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة, لما استعجلوا بالعذاب, ولخافوه أشد الخوف.
ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم, قالوا ما قالوا.
ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم " أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ " سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال:
" قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون "
" وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ " .
أي: نزل بهم " مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " أي: نزل بهم العذاب, وتقطعت عنهم الأسباب.
فليحذر هؤلاء, أن يصيهم ما أصاب أولئك المكذبين
" أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون "
يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء, الذين اتخذوا من دونه آلهة, وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن, الذي رحمته, شملت البر, والفاجر, في ليلهم ونهارهم فقال: " قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ " أي: يحرسكم ويحفظكم " بِاللَّيْلِ " إذا كنتم نائمين على فرشكم, وذهبت حواسكم " وَالنَّهَارِ " وقت انتشاركم وغفلتكم " مِنَ الرَّحْمَنِ " أي: بدله غيره.
أي: هل يحفظكم أحد غيره؟ لا حافظ إلا هو.
" بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ " فلهذا أشركوا به, وإلا فلو أقبلوا على ربهم, وتلقوا نصائحه, لهدوا لرشدهم, ووفقوا في أمرهم.
" بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون "
" أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا " أي: إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم, من يقدر على منعهم من ذلك السوء, والشر النازل بهم.
" لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ " أي: لا يعانون على أمورهم من جهتنا.
وإذ لم يعانوا من الله, فهم مخذولون في أمورهم, لا يستظيعون جلب منفعة, ولا دفع مضرة.
" قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون "
والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله: " بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ " أي: أمددناهم بالأموال والبنين, وأطلنا أعمارهم, فاشتغلوا بالتمتع بها, ولهوا بها, عما له خلقوا, وطال عليهم الأمد, فقست قلوبهم, وعظم طغيانهم.
وتغلظ كفرانهم.
فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم, وعن يسارهم من الأرض, لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية, ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك, وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس, الأشراك.
ولهذا قال: " أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا " أي: بموت أهلها وفنائهم, شيئا فشيئا, حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
فلو رأوا هذه الحالة, لم يغتروا, ويستمروا على ما هم عليه.
" أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ " الذين بوسعهم, الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم, أذعنوا, وذلوا, ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟
" ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين "
أي: " قُلْ " يا محمد, للناس كلهم: " إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ " أي: إنما أنا رسول, لا آتيكم بشيء من عندي, ولا عندي خزائن الله, ولا أعلم الغيب, ولا أقول إني ملك, وإنما أنذركم بما أوحاه الله إلي.
فإن استجبتم, فقد استجبتم لله, وسيثيبكم على ذلك.
وإن أعرضتم وعارضتم, فليس بيدي من الأمر شيء, وإنما الأمر لله, والتقدير كله لله.
" وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ " أي: الأصم لا يسمع صوتا, لأن سمعه قد فسد وتعطل.
وشرط السماع مع الصوت, أن يوجد محل قابل لذلك.
كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح, والفقه عن الله.
ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى, كان بالنسبة للهدى والإيمان, بمنزلة الأصم, بالنسبة إلى الأصوات فهؤلاء المشركون, صم عن الهدى, فلا يستغرب عدم اهتدائهم, خصوصا في هذه الحالة, التي لم يأتهم العذاب, ولا مسهم ألمه.
" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين "
" وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ " أي: ولو جزء يسير من عذابه.
" لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " أي: لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور, والندم, والاعتراف بظلمهم وكفرهم واستحقاقهم العذاب.
" ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين "
يخبر تعالى عن حكمه العدل, وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم يوم القيامة, وأنه يضع لهم الموازين العادلة, التي يبين فيها مثاقيل الذر, الذي توزن به الحسنات والسيئات.
" فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ " مسلمة ولا كافرة " شَيْئًا " بأن تنقص من حسناتها, أو يزاد في سيئاتها.
" وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ " التي هي أصغر الأشياء وأحقرها, من خير أو شر " أَتَيْنَا بِهَا " وأحضرناها, ليجازي بها صاحبها.
كقوله: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " .
" وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا " .
" وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " يعني بذلك نفسه الكريمة, فكفى بها حاسبا, أي: عالما بأعمال العباد, حافظا لها, مثبتا لها في الكتاب, عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها واستحقاقها, موصلا للعمال جزاءها.
" الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون "
كثيرا ما يجمع تعالى, بين هذين الكتابين الجليلين, اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما, ولا أعظم ذكرا, ولا أبرك, ولا أعظم هدى وبيانا, وهما التوراة والقرآن.
فأخبر أنه آتى موسى أصلا, وهارون تبعا " الْفُرْقَانَ " وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأنها " ضِيَاءً " أي: نور يهتدي به المهتدون, ويأتم به السالكون, وتعرف به الأحكام, ويميز به بين الحلال والحرام, وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية.
" وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " يتذكرون به, ما ينفعهم, وما يضرهم, ويتذكر به الخير والشر.
وخص " المتقين " بالذكر, لأنهم المنتفعون بذلك, علما وعملا, ثم فسر المتقين فقال:
" وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون "
" الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ " أي:- يخشونه في حال غيبتهم, وعدم مشاهدة الناس لهم, فمع المشاهدة أولى, فيتورعون عما حرم, ويقومون بما ألزم.
" وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ " أي: خائفون وجلون, لكمال معرفتهم بربهم.
فجمعوا بين الإحسان والخوف والعطف, هنا, من باب عطف الصفات المتغايرات, الواردة على شيء واحد, وموصوف واحد.
" ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين "
" وَهَذَا " أي: القرآن " ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ " فوصفه بوصفين جليلين.
كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب, من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم, ومن أحكام الجزاء, والجنة, والنار, فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية.
وسماه ذكرا, لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر, من التصديق بالأخبار الصادقة, والأمر بالحسن عقلا, والنهي عن القبيح عقلا.
وكونه " مباركا " يقتضي كثرة خيره ونماؤه, وزيادته.
ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن, فإن كل خير ونعمة, وزيادة دينية أو دنيوية, أو أخروية, فإنها بسببه, وأثر عن العمل به.
فإذا كان ذكرا مباركا, وجب تلقيه بالقبول والانقياد, والتسليم, وشكرا لله على هذه المنحة الجليلة, والقيام بها, واستخراج بركته, بتعلم ألفاظه ومعانيه.
ومقابلته بضد هذه الحالة, من الإعراض عنه, والإضراب عنه, صفحا وإنكاره, وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم.
ولهذا أنكر تعالى, على من أنكره فقال: " أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ " .
" إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون "
لما ذكر تعالى موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم, وكتابيهما قال: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ " أي: من قبل إرسال موسى ومحمد, ونزول كتابيهما.
فأراه الله ملكوت السماوات والأرض, وأعطاه من الرشد, الذي كمل به نفسه, ودعا الناس إليه, ما لم يؤته أحدا من العالمين, غير محمد.
وأضاف الرشد إليه, لكونه رشدا, بحسب حاله, وعلو مرتبته.
وإلا, فلا مؤمن, له من الرشد, بحسب ما معه في الإيمان.
" وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ " أي: أعطيناه رشده, واختصصناه بالرسالة والخلة, واصطفيناه في الدنيا والآخرة, لعلمنا أنه أهل لذلك, وكفء له, لزكائه وذكائه.
ولهذا ذكر محاجته لقومه, ونهيهم عن الشرك, وتكسير الأصنام, وإلزامهم بالحجة.
" قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين "
فقال: " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ " التي مثلتموها ونحتموها بأيديكم, على صور بعض المخلوقات " الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ " مقيمون على عبادتها, ملازمون لذلك, فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم, التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها, ونحتموها بأيديكم, فهذا من أكبر العجائب, تعبدون ما تنحتون.
" قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين "
فأجابوا بغير حجة, جواب العاجز, الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا: " وَجَدْنَا آبَاءَنَا " كذلك يفعلون, فسلكنا سبيلهم, وأتبعناهم على عبادتها.
" قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين "
ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة, ولا تجوز به القدوة: خصوصا, في أصل الدين, وتوحيد رب العالمين.
ولهذا قال لهم إبراهيم - مضللا للجميع: " لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " أي: ضلال بين واضح.
وأي ضلال, أبلغ من ضلالهم في الشرك, وترك التوحيد؟!! أي: فليس ما قلتم, يصلح للتمسك به, وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح, البين لكل أحد.
" قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين "
" قَالُوا " على وجه الاستغراب لقوله, والاستفهام لما قال, وكيف بادأهم بتسفيههم, وتسفيه آبائهم-: " أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ " أي هذا القول الذي قلته, والذي جئتنا به, هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا, كلام لاعب مستهزئ, لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا.
وإنما رددوا الكلام بين الأمرين, لأنهم في نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد, أن الكلام الذي جاء به إبراهيم, كلام سفيه لا يعقل ما يقول.
فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم, وقلة عقولهم فقال:
" وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين "
" بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " فجمع لهم بين الدليل العقلي, والدليل السمعي.
أما الدليل العقلي, فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم, أن الله وحده, الخالق لجميع المخلوقات, من بني آدم, والملائكة, والجن, والبهائم.
والسماوات, والأرض, المدبر لهن, بجميع أنواع التدبير.
فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه.
ودخل في ذلك, جميع ما عبد من دون الله.
أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز, أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه, لا يملك نفعا, ولا ضرا, ولا موتا, ولا حياة, ولا نشورا, ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟ أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل عليهم السلام, فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق, ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم " وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ " أي أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل " مِنَ الشَّاهِدِينَ " وأي شهادة بد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.
" قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين "
ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ " أي أكسرها على وجه الكيد " بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ " عنها إلى عيد من أعيادهم, فلما تولوا مدبرين, ذهب إليها بخفية " فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا " أي كسرا وقطعا, وكانت مجموعة في بيت واحد, فكسرها كلها.
" إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ " أي إلا صنمهم الكبير, فإنه تركه لمقصد سيبينه.
وتأمل هذا الاحتراز العجيب, فإن كل ممقوت عند الله, لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم, إلا على وجه إضافته لأصحابه, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: " إلى عظيم الفرس " , " إلى عظيم الروم " ونحو ذلك, ولم يقل " إلى العظيم " .
وهنا قال تعالى: " إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ " ولم يقل " كبيرا من أصنامهم " .
فهذا ينبغي التنبه له, والاحتراز من تعظيم ما حقره الله, إلا إذا أضيف إلى من عظمه.
وقوله: " لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ " أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه, ويستملوا حجته, ويلتفتوا إليها, ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها: " فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ " .
" قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم "
فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي " قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ " فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده.
وإنما الظالم من اتخذها آلهة, وقد رأى ما يفعل بها " قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ " أي يعيبهم ويذمهم, ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها " يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ " فلما تحققوا أنه إبراهيم " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ " أي: بإبراهيم " عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ " أي بمرأى منهم ومسمع " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " .
أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم, وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة, كما قال موسى حين واعد فرعون.
" مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " .
" قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "
فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: " أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا " أي: التكسير " بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ " ؟ وهذا استفهام تقرير, أي: فما الذي جرأك, وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟.
" فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون "
فقال إبراهيم والناس مشاهدون " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " أي: كسرها غضبا عليها, لما عبدت معه, وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده.
وهذا الكلام من إبراهيم, المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.
ولهذا قال: " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " وأراد: الأصنام المكسرة اسئلوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر, اسألوه لأي شيء كسرها, إن كان عندهم نطق, فسيجيبونكم إلى ذلك, وأنا وأنتم, وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم, ولا تنفع ولا تضر, بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
" قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم "
" فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ " أي: ثايت إليهم عقولهم, ورجعت إليهم أحلامهم, وعلموا أنهم ضالون في عبادتها, وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك.
" فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " فحصل بذلك المقصود, ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم.
ولكن لم يستمروا على هذه الحالة.
بل " نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ " أي: انقلب الأمر عليهم, وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم, فقالوا لإبراهيم: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " فكيف تتهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟
" أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون "
فقال إبراهيم - موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الأشهاد, ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة-: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ " .
فلا نفع ولا دفع.
" قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين "
" أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم, وما أخسكم, أنتم وما عبدتم من دون الله.
" أَفَلَا تَعْقِلُونَ " لتعرفوا هذه الحال.
فلما عدمتم العقل, وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة, صارت البهائم, أحسن حالا منكم.
" وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين "
فحينئذ لما أفحمهم, ولم يبينوا حجة, استعملوا قوتهم في معاقبته.
و " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " أي: اقتلوه أشنع القتلات, بالإحراق, غضبا لآلهتكم, ونصرة لها.
فتعسا لهم ثم تعسا, حيث عبدوا كما أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم, واتخذوه إلها.
فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: " كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فكانت عليه بردا وسلاما, لم ينله فيها أذى, ولا أحس بمكروه.
" ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين "
" وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا " حيث عزموا على إحراقه.
" فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ " أي: في الدنيا والآخرة, كما جعل الله خليله وأتباعه, هم الرابحين المفلحين.
" ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين "
" وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا " وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل: إنه ابن أخيه, فنجاه الله, وهاجر " إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ " أي: الشام, فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق.
" وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي " إنه هو العزيز الحكيم.
ومن بركة الشام, أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها, وأن الله اختارها, مهاجرا لخليله.
وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة, وهو بيت المقدس.
" وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين "
" وَوَهَبْنَا لَهُ " حين اعتزل قومه " إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " ابن إسحاق " نَافِلَةً " بعد ما كبر, وكانت زوجته عاقرا, فبشرته الملائكة بإسحاق.
" وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " ويعقوب, هو إسرائيل, الذي كانت منه الأمة العظيمة, وإسماعيل بن إبراهيم, الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية, ومن ذريته, سيد الأولين والآخرين.
" وَكُلَا " من إبراهيم وإسحاق ويعقوب " جَعَلْنَا صَالِحِينَ " أي: قائمين بحقوقه, وحقوق عباده.
ومن صلاحهم, أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره, وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون, ويمشي خلفه السالكون, وذلك لما صبروا, وكانوا بآيات الله يوقنون.
" ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين "
وقوله: " يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " أي: يهدون الناس بديننا, لا يأمرون بأهواء أنفسهم, بل بأمر الله ودينه, واتباع مرضاته, ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
" وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ " يفعلونها ويدعون الناس إليها.
وهذا شامل للخيرات كلها, من حقوق الله, وحقوق العباد.
" وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ " هذا من باب عطف الخاص على العام, لشرف هاتين العبادتين وفضلهما, ولأن من كملهما كما أمر, كان قائما بدينه, ومن ضيعهما, كان لما سواهما أضيع.
ولأن الصلاة أفضل الأعمال, التي فيها حقه.
والزكاة أفضل الأعمال, التي فيها الإحسان لخلقه.
" وَكَانُوا لَنَا " أي: لا لغيرنا " عَابِدِينَ " أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم.
فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم, فاتصفوا بما أمر الله به الخلق, وخلقهم لأجله.
" وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين "
هذا ثناء من الله على رسوله (لوط) عليه السلام بالعلم الشرعي, والحكم بين الناس, بالصواب والسداد, وأن الله أرسله إلى قومه, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عما هم عليه من الفواحش, فلبث يدعوهم, فلم يستجيبوا له.
فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم " كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " .
كذبوا الداعي, وتوعدوه بالإخراج, ونجى الله لوطا وأهله.
فأمره أن يسري بهم ليلا, ليبعدوا عن القرية, فسروا ونجوا, وذلك من فضل الله عليهم ومنته.
" ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم "
" وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا " التي من دخلها, كان من الآمنين, من جميع المخاوف, النائلين كل خير وسعادة, وبر, وسرور, وثناء.
وذلك لأنه من الصالحين, الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم, وأصلح الله فاسدهم.
والصلاح, هو السبب لدخول العبد برحمة الله.
كما أن الفساد, سبب لحرمانه الرحمة والخير.
وأعظم الناس صلاحا, الأنبياء عليهم السلام ولهذا يصفهم بالصلاح.
وقال سليمان عليه السلام " وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " .
" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين "
أي: واذكر عبدنا ورسولنا, نوحا عليه السلام, مثنيا مادحا, حين أرسله الله إلى قومه, فلبث فيهم ألف سنة, إلا خمسين عاما, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عن الشرك به, ويبدي فيهم ويعيد, ويدعوهم سرا وجهارا, وليلا ونهارا.
فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ, ولا يفيد لديهم الزجر, نادى ربه وقال: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا " .
فاستجاب الله له, فأغرقهم, ولم يبق منهم أحدا.
ونجى الله نوحا وأهله, ومن معه من المؤمنين, في الفلك المشحون.
وجعل ذريته هم الباقين, ونصرهم الله على قومه المستهزئين.
" ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين "
أي: واذكر هذين النبيين الكريمين " سليمان " و " داود " مثنيا مبجلا, إذا آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد, بدليل قوله: " إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ " أي: إذ تحاكم إليهما صاحب حرث, نفشت فيه غنم القوم الأخرى, أي.
رعت ليلا, فأكلت ما في أشجاره, ورعت زرعه.
فقضى فيه داود عليه السلام, بأن الغنم تكون لصاحب الحرث, نظرا إلى تفريط أصحابها, فعاقبهم بهذه العقوبة.
وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب, بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث, حتى يعود إلى حاله الأولى, فإذا عاد إلى حاله, ترادا ورجع كل منهما بما له, وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال:
يتبع ...