مع غروب الشمس و ذلك الجو الاحمر .. تعود الام الى البيت بخطواتٍ متثاقلة .. تعود و قد جمعت ما يكفي لعشاء ليلة واحدة ، كانت هذه عادتها بعد أن توفي زوجها و ترك لها طفلا وحيدا عمره 7 سنوات .. تخرج كل يومٍ صباحا و لا تعود الا للمساء ، و تترك الطفل مع جارتها تهتم به الى ان تعود ..
مع غروب شمس هذا اليوم و توديع النهار .. وصلت الأم إلى البيت و قد أنهكها التعب هذه المرة و نال منها المرض .. استقبلهآ ابنها " مازن " بفرحة كما هي عادته و قبلها ، ذلك خفف عنها قليلاً و أراحهــآ ، فهو الأمل الوحيد لها في الحياة .. و لأجله تعمل كل هذا العمل .. لأجله فقط و لأجل أن تراه رجلا صالحا يسعى للخير ..
حل الظلام .. استلقت الام على السرير و هي متعبة .. جلس بجانبها ولدها و هو يحكي لهآ كيف مرَّ يومه و ماذا فعل ، ماذا درس و ماذا لعِب .. و هي تنصت إليه و تتلذذ بكلماتِه ، لاحظ " مازن " ان امه مرهقة و مريضة فقال و كله طموحٌ : " مامــآ .. عندما أكبر سأصبح طبيباً و سأداويكِ .. سأداويكِ بنفسي و لن تحتاجي للذهاب الى الطبيب "
ابتسمت الأم و الأوجاع تكاد تنآلُ منها ، فواصل الابن كلامه : " ماما .. ربما أصبح كـ معلمي ، او لا ، سأصبح طياراً .. ممم لا ربما اصبح شرطياً لأقبض على كل المجرمين .."
- أجل يا حبيبي ستكون طبيبا يداوي المرضى و يخفف عنهم آلامهم .. أنت لن تخذلني
- طبعا يا ماما لن اخذلكِ
-
نعم يا بني .. أنت ستكون رجلا عظيما .. اقتدِ برسولنا محمد عليه الصلاة و السلام و ستكون رجلا يبني الأمة و يضمها الى بعضها بعد شتاتٍ .. ستكون عند حسن ظني بك فأنت ولدي
أغمضت الأم عينيها و غطت في النوم و الصغير لا يزال يسرد حكاياتِه ..
- ماما .. لا تنامي أريد أن أقول لكِ شيئا سيفرحكِ .. انا نلت علامة تامة و انا الاول في مدرستي..
لكن الأم لم تجِب .. فواصل الكلام و المسكين لا يعلم شيئآ .. لا يعلم أن أمه غطت في نومٍ لن تستيقظ منه أبدآ ..
حُمِل الفتى بعد ذلك إلى دآر الأيتـام .. كان يذهب الى المدرسة من هناك .. لكن المدرسة تغيرت بدورها ، كل أصدقاءه قد تخلوا عنه باعتباره يتيم الابوين الآن و طفلا مشرداً .. لا اظن ان احدا كان يذكر اسمه الحقيقي (مازن) فقد اشتهر بلقب اليتيم بينهم ..
مرت سنة على الحادث ..
في أحد الأيام حضر رجلٌ إلى الميتم و تبنى " مازن " .. عاش معه حياة قاسية و صعبة ، صحيح أنه لم يحرمه من الطعام او اللباس او الالعاب و لكن .. كان يجبره على ان يسير وِفق أوامره حرفيا .. كان يقوده كـ آلة فقط .. لم يكن يمنحه أيَّ حنـــآن .
مرت الأيـام و وصَلَ "مازن" الى الجامعة بعد ان اجتاز امتحان " الباكالوريوس" بعلامة جيدة ، كان يريد ان يحدد تخصُّصَهُ كـ طبيب ليعالج المرضى أمثَال أمه و الذين لا يملكون أجره الطبيب .. لكن هيهات ان يحقق هذا اليتيم حلمه ، كان الرجل الذي تبنَّــاه "عصام" يريده أن يكون رساما بعد ان اكتشف موهبته و ذلك كي يدر عليه المال .. عارض "مازن" في البداية لكنه هدده بإيقاف دراسته نهائيا .. فكر "مازن" كثيرآ ، و وضع خطة لمستقبلِه ، رأى أن يدرس الرسم كمآ اشترط و بعد أن يجمع مالا يسافر و يستعيد حريته .. حريته التي فقدها منذ زمن !!
و بالفعل أعلن موافقته للرجل على دراسة الرسم و شق طريقه كـ رسام كما كان يظهر للناس من حوله ..
مرت سنة حتى الآن .. خلالها جمع "مازن" من النقود ما يكفيه للسفر الى بلاد اخرى ، أراد السفر دون ان يعلم متبنيه بذلك ، فهو بالتاكيد سيمنعه ، قام اولا بتحضير جواز السفر و حضر كذلك الامتعة التي سيأخذها معه ، و انتظر الليل ..
على مائدة العشـــآء ، لاحظ الرجل ان "مازن" يبدو سعيدآ فاستغرب لذلك ، إذ أنه لم يره بهذا المنظر منذ ان تبناه قبل سنوآت .. سأله عن السبب و لكن "مازن" اكتفى بقول "لاشيء سيدي"
لم يقتنع الرجل فـ جعل "مازن" يقوم ببعض الاعمال حتى يبتعد عن غرفته و يذهب هو لتفتيشها ، و بالفعل هذا ما حصل و استطاع ايجاد جواز السفر فـ منع "مازن" من الذهآب لأي مكان ..
ساءت حالة "مازن" النفسيه و الصحية بسبب ما حدث و أخذ يردد في نفسه "لقد خذلت أمي لقد خذلت أمي .. كانت تريدني ان اصبح طبيبا و لكنني خذلتها .. سامحيني يا امي"..
مرت سنوآت و أصبح "مازن" رساما .. لكن عبارة امه لا تزال ترن في اذنه "نعم يا بني.. انت لن تخذلني و ستكون طبيبـــآ ناجحا"
تزوج "عصام" الرجل الذي ربَّى "مازن" و أنجب طفلاً.. لكن ابنه كان عاقا جِــداً .. عاقبه الله بابن لا يسمع كلامه .. يسبه و يشتمه .. يرفض ان يلتزم بدروسه و يرفض أن يأخذ برأي أحدٍ ..
زوجة "عصام" اصيبت بالمرض و اشتد عليها فكان ينفق اموالا طائلة لعلاجها .. و بالتالي شركته التي يديرها قاربت شمسها على الغروب و في طريقها الى " الإفــلآسِ "
هنــآ عرف مكآنة "مازن" لكِن بعد فوآت الأوان ..
في أحد الأيَّــام كان "مازن" في غرفته فدخل عليه "عصام"
- ماذا هناك سيدي ؟
وقع "عصام" على الارض و هو نادم اشد الندم
- انا آسف آسـف آسف يا مازن .. لقد ظلمتك كل هذه السنين .. لم أكتشف ذلك الا الآن
- اعتذارك لن يغير شيئا .. لم اعد اهتم
- أرجوك سامحني.. اكتشفت الآن أني كنت ظالماً ، بل ظالما جدآ ، حرمتك من تحقيق حُلمك .. و الآن الله يعاقبني .. زوجتي أصيبت بالمرض و ابني عاق و لا يسمع كلامي .. و الشركة التي أديرها تكاد تفلس .. ارجوك ان تسامحني و ان اردت فعد الى الجامعة و ادرس الطب
- أينفع ان أعود الآن إلى الجامعة ؟؟ !! بالتأكيد لآ .. ضاع حلمي و انتهى ..
واصل "مازن" كلامه و الدموع تنزل من عينيه كالخيط المتصل : -
كنت أريد بشدة أن أجعل امي تفخر بي .. كنت أحلم ان ارفع اسمها عاليًــا و أداوي الفقرآء بدون مقابل .. كنت أحلم أن أرى البسمه على وجوههم و الفرحة تعلوهم ، كنت أحلم أن أنقذ حياة الناس .. كنت أحلم بأشياءٍ كثيرة و لكنك كنت حائلا بيني و بينها .. كل ذلك من اجل المال لا غير.. استغللت طفلا يتيما من اجل المال فقط !! و الآن ماذا عساني أقول ؟ ! الله يجعلك تدفع ثمن ذلك فتحمل ..
ثم انصرف "مازن" ..
في الصباح ..
استيقظ "عصام" على صوت ابنه المتمرد و هو يلعن الجميع .. كل ذلك بسبب عدم وجود طعام يناسبه
- اهدأ يا ولد .. نحن الآن فقراء وعليك ان تتفهم هذا .. احمد الله على النعمه
- أنا أريد طعاما فاخرا و لا اريد فتات الخبز هذا
- (في نفسه) كان مازن يأكل فتات الخبز و لا يشترط !! آه من هذا الولد
اطرق الأب راسه و توجه لغرفة "مازن" .. لكن المصادفة انه لم يجده في الغرفة بل وجد رسالة فقط
[ اعذرني يا سيد عصام لم أعد أطيق البقاء هنآ .. اتمنى ان تتحسن أحوالك في القريب العاجل .. تحياتي .. ]
ازداد ندمُ "عصام" على ما فعل و بدأ بالبكاء لأول مرة في حياته
خلال سفرِ "مازن" وجد طبيبا خبيرا أُعجِبَ بلوحاته التي يرسمها ، بالمقابل علمه كلَّ شيء عن الطب و صارا صديقين مقربين .. أخذ "مازن" يعمل مع الطبيب في عيادته حتى تعود الناس عليه .. و بعد وفاة الطبيبِ ورِثَ العيادة عنه و استمر في العمل بها حتى ذاع صيته في الآفاق و اشتهر في تلك المدينة ..
بعد سنوآت ..
عاد "مازن" الى بيت "عصام" .. و لكن يا للأسف !!
البيت مهجور و خالٍ من السكان ، النوافذ زجاجها مكسور ، السطح قرميده قد وقع من الرياح و القِدم ، جدران البيت أكلها الزمن ..
سأل الجيرآن أين ذهب أهل الدار .. فأجابه أحدهم :
- آه يا بني حكاية هذه العائلة مؤسفة.. ماتت زوجة عصام بعدمـآ اشتد عليها المرضُ ، فبقي عصام مع ولده العاق في المنزل وحيدين لا يوجد حتى من يطبخ لهما ليأكلا .. و ذات يوم حضر ابن عصام و هو سكران الى البيت .. فحدث شجار بين الاب و ابنه .. انتهى بقتل الولد لأبيه و هربه .. لكن الشرطة القت القبض عليه و زجته في السجن .. و حكمت عليه بالسجن المؤبد
و منذ ذلك الحين لا احد يدخل المنزل ..
حزن "مازن" لذلك فأطرق رأسه و أخذ يستعيد ذكرياته المؤلمة ..
- لكن يا ولدي ان عصام فعلا يستحق ما حدث له ..
- لم افهم قصدك سيدي
- لقد كان لديه ولد يربيه .. كان يظلمه كثيرا .. ظلم اليتيم الذي اوصى رسول الله به فنال ما يجب ان يناله .. نعم انه انتقام يتيمٍ ..
قالها الرجل و هو لا يعرف ان اليتيم الذي انتقم ما هو الا الشاب الواقِف أمامه ..
في النهاية نال الظالم عقابه .. فلو كفل اليتيم لَـ كانت حياته جنة !!
و لكنه ظلم يتيما فاستحق العقاب .. استحق اقصى درجات العقآبِ ..
و بالمقابل "مازن" لم يخسر شيئاً .. فقد اصبح طبيبا و خصص يوم الجمعة للفقراء
يأتون إليه فيكشف عليهم و يداويهم دون مقابل .. كل ما كان يطلبه هو دعوة منهم لأمه أن يرحمها الله و يسكنها فسيح جناته .. كان على ثقة أن أمه فخورة به الآن ..
نعم .. الله يمهل و لا يهمل ..
حكاية ألم .. بقلمي / إشرآقـــة أمل ..