تفسير الشيخ الشعراوي سورة ص
٤١-٤٤
(وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )٤١-ص
قوله تعالى { وَٱذْكُرْ .. } [ص: 41] أي: بالحمد والثناء { عَبْدَنَآ أَيُّوبَ .. } [ص: 41] الوصف بالعبودية هنا شرف، لأنه دلَّ على إعزاز الربوبية لمرتبة العبودية، وقلنا: إن العبودية كلمة ممقوتة عند البشر، لأن العبودية للبشر إهانة وتسخير، يأخذ فيها السيد خير عبده وثمرة حركته في الحياة، أما العبودية لله تعالى فوَصْفٌ محبوب، وكلمة محمودة، لأن العبد فيها يأخذ خير سيده.
لذلك لما امتنَّ الله تعالى على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج جعل حيثية ذلك العبودية له سبحانه، فقال: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ .. } [الإسراء: 1] فلما ضاقتْ به حفاوة الأرض في الطائف أراد ربه أنْ يُريَهُ حفاوة السماء به، فالصفة التي رفعتْ محمداً إلى هذه المنزلة هي صفة إخلاصه في العبودية لربه.
ومعنى { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41] المسُّ: هو الالتقاء الهيِّن الخفيف، يعني هو دون اللمس، قالوا: لأنه مرض مرضاً شديداً أثَّر في إهابه، فكان الشيطان يحوم حوله بخواطر السوء يقول له: كيف يفعل الله بك هذا وأنت رسول، كيف يتركك هكذا دون أنْ يشفيك.
وهكذا اجتمع على سيدنا أيوب ألم الجلد وعذابه الجسدي، وهواجس الشيطان في خواطره النفسية، لذلك قال: { بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41] ونُصْب بالضم مثل نَصَب بالفتح والنَّصَّب التعب، فهي مثل بُخْل وبَخَل، الاثنان بمعنى واحد.
وقالوا في مسِّ الشيطان: إن الفعل على الحقيقة لله تعالى، فالله هو الذي يفعل، والشيطان بوسوسته سبب، والله تعالى هو المسبِّب، فمَسُّ الشيطان يعني وسوسته التي شغلتْ خاطر سيدنا أيوب، فكأن الحق سبحانه أراد من أيوب أنْ يتنبه إلى أن هذه الوسوسة ما كان يصح أنْ تمرَّ بخاطره.
وسيدنا أيوب لما اجتمع عليه المرض ووسوسة الشيطان ضَعُفَ فتوجَّه إلى ربه يدعوه أنْ يقطعَ عن نفسه وسوسة الشيطان؛ لأنها تحتاج إلى مدافعة، والمدافعة تحتاج إلى قوة، والقوة عنده مرهونة بالمرض، ولذلك دعا الله حتى لا يزدادَ ضعفه بوسوسة الشيطان، فلما دعا الله أجابه:
(ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )٤٢-ص
فكأن الحق سبحانه يقول له: أنا لا أبتليك كراهةً فيك، ولا مشقَّةً عليك، إنما أريد أنْ أسمع منك أنك تكره مَنْ يجيل لك بخاطرك شيئاً يبعدك عني، { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ .. } [ص: 42] يعني: المسألة عندي سهلة يسيرة كما تقول: يا فلان الأمر هيِّن فهو تحت رجْلَيْك.
والركْض هو القذف بشدة وسرعة، تقول: ركضتُ الفرسَ. يعني: غمزتُه برجلي هكذا من تحت ليسرع، ثم يتجاوز السياق مسألة الركض إلى النتيجة مباشرة { هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ص: 42] ولم يقل: فركض فخرج الماء كذا وكذا، إنما انطوى هذا كله، واكتفى بالأمر (ارْكُضْ).
والمعنى: أن في هذا الماء مغتسلاً لك وشراباً، لأن المرض الذي أصاب سيدنا أيوب يبدو أنه كان مرضاً جلدياً يترك على بشرته بُثوراً تشوِّه جلده. والآن نرى الأطباء الذين يعالجون الأمراض الجلدية يعالجونها بالمراهم الظاهرية التي تعالج ظاهر المرض، لكن لا تتغلغل إلى علاج سبب المرض الداخلي.
فكان من رحمة الله بسيدنا أيوب أنْ جعل شفاءه الظاهري والباطني في ركضة واحدة تخرج الماء، فيغتسل منه مُغتسلاً بارداً، يشفي ظاهر مرضه وشراب يشفي أسباب المرض في داخل جسمه.
ثم يتحدث الحق سبحانه عن بعض نعمه على نبيه أيوب:
(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ )٤٣-ص
قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ .. } [ص: 43] يبدو أن بعض أهله بعدوا عنه لما أصابه المرض، فلما شفاه الله وعاد إلى حال السلامة عادوا إليه { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ .. } [ص: 43] يعني: وهبنا له مثل أهله أي: من الذرية والأتباع { رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ص: 43] الذكرى هي الخاطر الذي يمرُّ بك ليصرفك إلى متعلق الذِّكْرى؛ لأنك بصدد ما يبعدك عن سبب الذكرى.
ومضمون الذكرى هنا أنه لما صبر جاءه الفرج من الله، فعاد جسمه مُعَافاً سليماً بعد أنْ برئ من المرض ومن أسبابه، ثم عاد إليه أهله بزيادة مثلهم عليهم رفقاً بعواطفه. وهذا هو المراد بالرحمة في قوله { رَحْمَةً مِّنَّا .. } [ص: 43]، فهذه عطاءات متعددة جاءت ثمرة ونتيجة لصبره عليه السلام ورضائه بما قضى الله به.
إذن الذكرى التي نذكرها في هذه القصة أن الإنسان حين ينزل به الكرب يلجأ إلى الله، ويفزع إليه في كربه { { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ .. } [النمل: 62].
والله يحب من عبده هذا اللجوء لذلك يبتليه، وقد ورد أن الملائكة تقول: يا ربّ عبدُكَ ضَجَّ من الدعاء لك، ولم تُجِبْه، فقال سبحانه: إن من عبادي مَنْ أحب دعاءهم، فأنا أبتليهم لأسمع أصواتهم.
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )٤٤-ص
الضغث: حزمة الحشيش أو حزمة من شماريخ البلح، وقوله: { وَلاَ تَحْنَثْ .. } [ص: 44] دلَّ على أن المسألة كان فيها يمين يريد الله تعالى لأيوب ألاَّ يحنث فيه، وهذه الآية تلفتنا إلى قصة بيَّنتها السنة، قالوا: إن الشيطان ذهب إلى إحدى زوجات سيدنا أيوب، وقال لها: اطلبي من أيوب أنْ يلجأ إليَّ وأنا أشفيه حالاً، بشرط أنْ يقول: إن الذي شفاني الشيطان، ولأنها كانت مُسْتشرفة لأنْ يبرأ قالت له: والله جاءني خاطر قال لي كذا وكذا، قال: إنه الشيطان استمعت إليه وتريدين أنْ أطيعه، والله الذي لا إله إلا هو لأجلدنك مائة. هذا هو اليمين الذي أراد الله لأيوب ألاَّ يحنث فيه، فقال له: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ .. } [ص: 44].
والنبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا حينما جاءه الرجل الأَحْبَن، أحبن من (حَ بَ نَ) يعني: كبير البطن، أو في بطنه استسقاء، وقد زنى بامرأة هزيلة مريضة، فلما اعترف بجريمته خاف عليه الرسول أنْ يموتَ لو أقام عليه الحد، فأمر بأنْ يُضْربَ بحزمة من الحشيش، أو مائة عود من شماريخ النخل يُضرب بها مرة واحدة.
ومعنى { فَٱضْرِب بِّهِ .. } [ص: 44] أي: من آليت على نفسك أنْ تجلده { وَلاَ تَحْنَثْ .. } [ص: 44] أي: في يمينك { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً .. } [ص: 44] فكأن هذا التيسير جزاءٌ له على صبره وعلى رجوعه إلى ربه، فجعل الله له شيئاً يُرضيه بأنْ خفَّفَ عنه حتى الألم الذي يورثه في الغير، لأنه أقسم أنْ يجلد، فكان ينبغي عليه أنْ يُجلد على الحقيقة حتى لا يحنث، لكن خفَّفَ الله عليه حتى لا يؤلمه في أهله.
التفاسير العظيمة