" شهْرُ رَمَضانَ الذى أنزلَ فِيهِ القرْآنُ هُدًى للناس وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقان ِ" صدق الله العظيم .
كلما بزغ هلال رمضان من عام جديد للقمر ، فرض الشهر الكريم على الدنيا أن تسترجع ذكرى المبعث ، من حيث بدأ التاريخ يسير مع المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ويرصد كل خطوة من خطاه فى البلد العتيق ودار الهجرة ، ويسجل كل جولات الصراع بين الدين الإسلامى وبين الوثنية العربية والعصابات اليهودية ، على مدى عشرين عاما تم فيها النصر فى الجبهتين ، لتنتقل الجولة مع الصحابة فى حركة الفتوح الكبرى التى أطفأت نار المجوسية ، وألقت بالنسر الرومانى الهرم المريض تحت مواطئ الفاتحين ، فما مضى على المبعث نصف قرن حتى كان لواء الإسلام يظل العالم القديم من أقصى المشرق إلى أعالى الآفاق ، ترصد مولد هلاله الآخر؛ ليبدأوا به موسمهم الأكبر ، ويخوضوا معركتهم الفذة فى مجاهدة النفس ، وهى أشد أنواع الجهاد ومن بين شهور العام كله ، ينفرد " رمضان " بالذكر فى كتاب الإسلام ، تسجيلا لحرمته وجلاله " شهْرُ رَمَضانَ الذى أنزلَ فِيهِ القرْآنُ هُدًى للناس وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقان " وحين يخضع الإحتفال بالمناسبات التاريخية والأعياد الدورية ، للأعراف والعادات والتقاليد ، ويترك لظروف الزمان والمكان ، يظل إحتفالنا بشهر رمضان صوما وعبادة ومجاهدة تستغرق كل أيامه ولياليه ، من بدء شهود هلاله إلى أن يتم القمر دورته ويبزغ هلال شهر شوال ، والقرآن الكريم هو الذى تولى تشريع الإحتفال به على مايليق بجلاله ، لكيلا يمضى على مألوف الإحتفال بالأعياد ، تتوه عبرتها فى ضجيج طبل وزمر ورقص وغناء ، وتلتمس فيها الفرص للتحلل من القيود والإقبال على المتع والملذات فى تهالك وإسراف ِِ
وليكون لنا من شهرالقرآن ، موسم تدريب جماعى يأخذنا بضبط النفس على إحتمال مشاق التكاليف ، والصبر عليها ، تحت رقابة الله عز وجل والضمير، ويروضنا على على تحمل الحرمان من المطالب الجسدية التى تترك الإرادة والمتع الحسية التى تُقلّ العزم ، ويحررنا من أشر الماديات التى تعطل فينا إنسانية الإنسان ، ويبلوضمائرنا فى الرقابة على سلوكنا لكيلا تلين تحت وطأة الظروف القاسية ، وعلى مسار الزمن فى
مثل هذا الموعد المقررمن دورة عام القمر يتكررالمشهد الباهر على إمتداد العالم الإسلامى الرحب ، مظهر وحدة جامعة تكفلت بها العقيدة الإسلامية فلا نحتاج فيها إلى خطط موضوعة ، ولا يعوزنا لها تدبير من صنع البشر ، ؛ بل حسبنا أن نشهد هلال "رمضان " لنبدأ معا موسمنا الأكير على تنائى الديار واختلاف الأقاليم ، إحتفالا بشهر القرآن صوما وتعبُّدا ومُجاهدة . وتحيا الأمة الإسلامية فى مناخ روحى يتألق بنور الإيمان والتقوى ويتوهج بعزة الخشوع لخالقنا وَحْدَه ُلانعبد إلا إياه .
وترانا الدنيا أمة واحدة يظلها لواء واحد قد جمعها على البر والتقوى ، والتواصى بالحق والخير والأمر بالمعروف والتناهى عن الشروالمنكر" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمَعْرُوف وينهَوْن عن المنكر وأولئك هم المُفلحون " .
" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَوْن عن المنكر وتؤمنون بالله ".
وفى فيض من سنا الشهر الميارك ، أُسلِمُ نفسى إلى تأمل مُسْتغرق ؛ فأرانى طويت أبعاد الزمان والمكان إلى مسرح الأحداث الكبارالتى بدأبها عصر جديد للإنسان ، وعشت بوجدانى وفكرى مع المصطفى عليه الصلاة والسلام ، من غار حراء إلى مثواه فى المدينة المنورة.
وأعود بالذاكرة إلى أم القرى فى تلك الليلة المباركة من هذا الشهر الكريم وقمررمضان قد توارى واحتجب ، فليس على الأفق المُعْتِمْ سوى ضوء شاحب تكاد تحجبه عن مكة جبالها الصخرية ، ونامت الدنيا لا تلقى بالا ًلرجل من بنى هاشم ، إبن إمرأة من قريش تأكل القديد ، وقد أوى إلى غار هناك مُسْتغرِقا فى تأمله يلتمس فى العتمة الداجية شعاعا من نور الحق ، وينشد فى خلوته أنس الهدى وراحة اليقين وخواطره تحوم حول البيت العتيق الذى صار مع الزمن مثوى لأوثان ممسوخة شتَّى لكل قبيلة وثنها الذى تحج إليه وتطيف به وتقدم له القرابين .
وأوغل الليل قبل أن يطلع فجر هذه الليلة المباركة من رمضان وينشر نوره على القمم والسفوح والبطاح والقيعان ، فيضئ الظلمة الدَّجية .. ومع نور الفجر الوليد من الليلة الغراء ، تجلى الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم فى غار حِراء ، وألقى إليه الكلمة : " إقرأ " وما كان محمد بقارئ وما كان يتلو من قبله من كتاب ولايخطه بيمينه وبدأ تاريخ جديد ومع النور البازغ يتلو المصطفى الكلمات الأولى من هذا القرآن . مُعْجزة نبوية ، وكتاب وشريعة ، ولواء وعقيدة وجَّهَت التاريخ وحررت الإنسان . والنور الذى حدا مسرى البشرية الأمية من ليل الجاهلية وقاد مساره إلى آفاق المُثل العليا للحق والخير والجمال .