التزكية
هنا مدرسة التزكية، هنا فرع التزكية من مدرسة الصوم، هنا تربية النفس على أنها لا شيء، هذه وقفة مع أشد الشهوات وأهمها وأعظمها ضرورة في الحياة. قال تعالى: }وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} الأنبياء_آية.
ومع هذا، تقول لنفسك: صه، ذهب الظمأ، لا يوجد ظمأ، ذهب..عجيب!أنا أريدك أن تجربها وأنت صائم في هذا الحر، وعملك قد أدر منك العرق.. أريدك أن تحمل الماء إلى فمك، وتستشعر هذا المعنى، أي قبل أن تشرب تقول: "لست عطشانا، ليس هناك عطش، هذا من أجلك يا رب، هانت نفسي من أجلك يا رب، انتهى ذلك الغم، راودتني نفسي على الفطر فرددتها، وقلت لها: ذهب الظمأ".
أريدك أن تجرب أن تقول لنفسك هذا.. أن تقول لها منذ الصباح: "أنا سأصوم لأقول لله قبل فطري: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".
قف مع نفسك هذه الوقفة: نفسك أشد ما تحتاجه هو الماء، وقد قدرت عليه.فكيف بالسجائر؟فكيف بالمال الحرام؟فكيف بالنساء؟..
رد عنك كل هذه الخواطر.. أنت لا تحتاج لشيء في الدنيا أكثر من الماء، واصبر، وقل: "ذهب الظمأ".
إن النفوس خلقت من أمشاج وأخلاط رديئة.
قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} الإنسان-آية2.
النطفة وصفها أنها أمشاج.. أخلاط من الأخلاق الحسنة والسيئة على السواء.. أخلاط من طباع الخير والسوء على السواء.
لماذا يا رب أمشاج؟
يقول الله تعالى: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} الإنسان-آية2.
فأنت خلِقت على هيئة أمرك الله أن تتطهر منها، أنت خلقت من أمشاج، وأُمرت أن تكون صادقاً صافياً خالصاً. قال الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}الزمر-الآية:3.
خلّص هذه النفس من الأمشاج، ولا يكون ذلك إلا بتربيةٍ وتخلية، والتخليةُ من أهم ما يعينك عليها الصوم، فبه تتخلى عن الرغبة في اللذة, وتتخلى عن الرغبة ولو في المباح. تصور؟
الماء حلال ليس حراما، ولكن تُمنع منه في صومك لكي تتربى على الصبر على الحلال، فيكون الحرام عليك يسيرا، وهذه هي التزكية.
إن التزكية هي عملية تخليصٍ للنفس من شوائبها وأمشاجها، وذلك بالصوم يتحقق بإذن الله.
فالذي لا يصوم ضاعت منه التزكية, ولم يذهب عنه الظمأ.
إن هذه العبادات التي وفقك الله لها من تلاوة, وقيام, وصيام، وصدقات, وصلة, وسعي لطلب الحلال.. كلها من غير الصوم لها طعم, ومع الصوم لها طعم آخر.
بينك وبين النشاط شربة ماء.. بينك وبين ترك الخمول والانطلاق وذهاب العرق شربة ماء.. ولكنك تتركها، وينهدّ جسمك، وينهار صلبك.. لله.
وسيصلك هذا المعنى بوضوح أكثر في العنصر الثاني.