مع السلامة
ببالغ الحزن والأسى يصعب علي إخباركم بأنني قد .. فارقت الحياة !.
أعتذر عن عدم تمكني من وداعكم بالشكل اللائق، أنتم تعلمون أن مثل هذه الأشياء تأتي خاطفة، فلا تدع للواحد منا فرصة لعمل أي شيء .
اليوم يا أصدقائي خرج آخر نفس، كانت مفاجئة بالنسبة لي، لوهلة شعرت بالغُربة الشديدة، المرء منا لا يستطيع أن يتحمل العيش دون وطنه، وأهله، ومعارفه، فما بالكم والوداع هذه المرة يشمل مع كل هذا جسدا طالما اندمجت معه، حتى صرنا واحدا لا يفترق ..
دائما لحظات الوداع تكون صعبة، لكنني هذه المره سأحاول جاهدا أن أخفف من صعوبتها، نظرا لأنها كانت ـ مع مفاجئتها ـ متوقعة .
لا أحد يعيش للأبد، مهما حاول، وجاهد، وكافح، سيموت في نهاية المطاف، فلا داعي إذن لأعطاء الأمر أكبر من حجمه .
ما يؤلمني حقا أنني لم أستطع أن أعبر عن حبي وتقديري لبعضكم، وأخذني قطار التسويف فلم أُقدم اعتذارا على بعض الأخطاء لكثير من شركائي في الحياة الذين تجاوزت في حقهم، لكن الأكثر مدعاة للحزن والأسف هو مخزون الخجل الذي سأقابل به خالقي، ثمة أشياء كانت بحاجة لتوبة وندم عاجل، غرني طول الأمل عن تقديمها، دموع كان يجب أن تسقط بين يدي الله لم أقدر على سكبها، آه لو قُدر لي العودة مره أخرى .. لكنت فعلت الكثير !! .
لست متأكدا من أن التسامح سيكون غالبا على من تجاوزت في حقهم، ليس من حقي أن أعاتبهم على ذلك، لكنني أأمل أن يشملني تسامحهم وسعة قلوبهم .
للعلم .. لقد أبرأت كل من تجاوز في حقي بموقف، أو كلمة، سامحتهم جميعا رغم توعدي لهم مرارا بأنني ساقتص أمام الله، إنها حرارة الغضب والألم كما تعلمون، ولكن لا تراعوا .. لقد سامحتكم .
أعود إلى مفاجأة الحدث يا اصحابي، لقد كانت مفاجأة موتي باعثة للتأمل، لم أتصور أبدا أن تلك الملابس التي ارتديتها على عجل سيخلعها عن جسدي شخص آخر، لم يكن حاضرا في ذهني أن صندوق الأسرار ـ كما يحلوا لأبنائي تسميته ـ والذي احتفظ فيه بأشيائي الخاصة سيُفتح ويتم العبث به بغية البحث عن تذكار ما يُذكرهم بي .
ها قد مت .. تركت ظهر الأرض مرغما، لأبيت الليلة في بطنها، لا أسرة، ولا أغطية .. وللأسف سأظل في هذا المكان إلى قيام الساعة .
نسيت أن أقول لكم أني متفاجئ جدا، متفاجئ إلى حد الذهول، ومبعث دهشتي هو أن الحياة تسير وكأن شيئا لم يكن !.
الحياة لم تتغير ..!
هذه أصعب الحقائق حتى الآن .
لم يتغير بموتي أي شيء، الشمس ساطعة، الطيور تمارس هوايتها في الوقوف على شباك غرفتي، الناس تسير إلى أعمالها، السيارات تزعجكم بأبواقها المستفزة، لم تتوقف الحياة لموتي، بل لم تلحظ أصلا أنني لم أعد موجود !.
آه من ذلك الغرور الذي يتملك الواحد منا فيظن أنه هو الحياة، وبأن الحياة من دونه ستواجه مشكلة، وسترتبك حركة دورانها !.
رحمك الله يا أبا بكر يا صديق رسول الله عليه الصلاة والسلام، كنت حكيما عندما قلت " لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات" لقد فهمتك الآن يا رجل ..! .
أي غبطة يمكن أن تغبطون مثلي عليها، اللهم إلا بعض الأعمال الطيبة الخالصة التي فعلتها قربانا لمرضاة الله ..
أما دون ذلك فعبث وهراء ..
ما هذا الذي يحدث .. صوت نقاش حاد تصل إلى مسامعي بعض كلماته، أها إنهم يكتبون نعيي، ذلك الذي سيرقد في برواز اسود قاتم في صفحة الوفيات في الغد، إنهم يتناقشون فيما بينهم على الألقاب المناسبة التي ستزين اسمي، لا عليكم لم تعد الألقاب تنفعني، لقد ودعتها مع آخر أنفاسي .
أصدقائي .. لا تحزنوا كثيرا لموتي، تأملوا فقط في مشهد الموت، فلدى كل منكم فرصة في الغد لتجربته بأنفسكم، نصيحتي لكم تتجهزوا لتلك اللحظة .. تجهزوا لها بكامل طاقتكم ..
عذرا .. فأنا مضطر لوداعكم، فلقد زادت الجلبة والضجيج من حولي، وأغلب الظن أنهم قد أتوا لحملي إلى مثواي الأخير ..
هل يحق لي أن أطلب منكم شيئا أخيرا ..
بعض الدعاء سيكون مفيدا للغاية .. فلا تبخلوا به علي ..
مع السلامة .
كريم الشاذلى