من موسكو صدرت وتصدر تصريحات متلاعبة، تطالب بتغيير جدول أعمال المؤتمر من طي صفحة نظام بشار الأسد ودولته الأمنية إلى تنسيق «حرب على الإرهاب» - السني، طبعا - انطلاقا من سوريا ومنها إلى عموم المنطقة بالتعاون مع الحليف الجديد - القديم.. إيران.
ومن واشنطن همسات وتسريبات ومناورات. منها ما يتعلق بنظام دمشق الذي انكشف على حقيقته كـ«بيدق» شطرنج وصندوق بريد إسرائيلي - إيراني. ومنها ما يتصل بـ«تفعيل» عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية الميتة. ومنها ما يسعى إلى طمأنة «الأصدقاء» و«الحلفاء» إلى طبيعة التطور الحاصل على العلاقات الأميركية - الإيرانية.. بينما تواصل واشنطن على الأرض كل سياساتها التي تزرع الشك وتحض على توقع الأسوأ، وكان خير دليل الدعم «الجوي» السريع لنوري المالكي في العراق مقابل الإحجام عن فرض مناطق حظر طيران في سوريا.
ما نشهده راهنا مؤشر إلى تبلور ملامح استراتيجية إقليمية تبدو لسيئي النيات تتمة فعلية لغزو العراق عام 2003، والسماح لإيران باختراق المشرق العربي، تمهيدا للتفاوض معها.. عليه. وخلال الأيام المقبلة تنشغل المنطقة بحدثين يظهر في هذه الفترة ترابطهما أكثر من أي وقت مضى، هما: «مؤتمر جنيف 2»، وبدء جلسات المحكمة الدولية التي تنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق ورفاقه. جريمة اغتيال الحريري كانت أولا وأخيرا جريمة سياسية. الغاية منها سياسية، والرسالة التي عبرت عنها سياسية. وهي باختصار شديد، طلقة في الفتنة السنية - الشيعية المخطط لها بعناية، والتي تسارع إيقاع تنفيذ مراحلها حتى وصلنا إلى الحرب المذهبية المفتوحة التي نعيش الآن.
ثمة من يجادل أن البداية الحقيقية كانت غزو العراق، ومن ثم، الأسلوب الذي اعتمد في إدارة ملف احتلاله، بما فيه تدمير مؤسسات العراق القضائية والإدارية والعسكرية.
«تصفية» رفيق الحريري، ثم العمل الدؤوب على القضاء على ما يمثل ومن يمثل، جزء من الصورة الأكبر. وجاء البعد السوري لـ«الربيع العربي» ليفضح ما كان شبه مستور، إذ اتضح للعالم بأسره أن النظام الذي أوجده حافظ الأسد نظام له مهمات إقليمية معينة، وهو يدخل في حسابات جهات عدة ذات مصالح متقاطعة.. تكلفه خدمات محددة فيؤديها لقاء مكافآت متفق عليها. على سبيل المثال، لا الحصر، كان دخول جيش حافظ الأسد إلى لبنان في عقد السبعينات جزءا من تكليفه بضرب المقاومة الفلسطينية وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية، وهذا بالضبط ما فعله. وما حصل في سوريا تحت الحكم الاسمي لابنه منذ أقل بقليل من ثلاث سنوات، والطريقة التي تعامل بها اللاعبون الإقليميون الكبار مع المأساة السورية التي تحولت من انتفاضة شعبية إلى حرب دينية - مذهبية ذات امتدادات دولية، لافتان حقا. لقد اختار حكم بشار الأسد منذ البداية نهجين اثنين: الأول التصدي للانتفاضة بأكبر قدر ممكن من القوة والدم. والثاني العمل على ابتزاز المجتمع الدولي بالتواطؤ مع داعميه الإقليميين والدوليين. ولقد هدد الأسد، بصراحة، العالم كله بتفجير المنطقة. وكان القصد من هذا التهديد مفهوما في ظل واقع الفسيفساء الديموغرافية السورية والمشرقية. كذلك كانت الفرصة متاحة أمام المجتمع الدولي لتبني سياسة الردع السريع فور اعتماد النظام خيار القمع الدموي. ولعلنا نتذكر أن التهديد بـ«القاعدة» ليس من ابتكار الأسد، بل جربه معمر القذافي من قبل.
بل إن لدى النظام السوري نفسه تاريخا طويلا في التعامل «الإيجابي» مع «القاعدة» وأشباهها وإفرازاتها منذ فترة غير قصيرة.. وليس هناك من شهادة أبلغ على ذلك من النظام العراقي بالذات، الذي كان يشكو من تواطؤ دمشق مع الجماعات المتطرفة، وتسهيلها حرية تحركها إلى داخل العراق لمناوشة القوات الأميركية. وهذا، يبدو الآن جزءا من المخطط الإيراني الذكي الذي توخي شن واشنطن الحرب لإزاحة صدام ومعه «السنية السياسية» وتمكين رموز «الشيعية السياسية» من الإمساك بالعراق. ومن ثم.. إرباك قوات الاحتلال وابتزازها أمنيا لدفعها عن الانسحاب. وهنا كانت مشاركة نظام دمشق - بالتفاهم مع طهران وغير طهران - إيجابية ومباشرة. وجاء الانسحاب الأميركي تتويجا للاعتراف لإيران بالنفوذ في شرق المتوسط، والتفاوض معها على هذا الأساس. صحيح كان لروسيا دور في تنفيذ المخطط، لكنه يظل استغلاليا مشاغبا أكثر منه الدور الاستراتيجي الدائم. فطهران لا تعتبر نفسها حليفا استراتيجيا لموسكو، لكن لا مانع لديها ولا لدى موسكو في التشارك على إزعاج واشنطن منكفئة على ذاتها ومنشغلة بهموم عالمية أخرى. أين، نحن إذن أمام الاستحقاقات المقبلة؟
التصعيد الفظيع في سوريا، بعد تفاهم «الكبار» على أن لا حل إلا الحل السلمي، يهدف عمليا إلى تفجير المعارضة السورية وشرذمتها قبل «جنيف 2». واندلاع حرب الفصائل المناوئة للأسد بعد انفضاح خطورة ما تفعله «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وبعض القوى المتطرفة الأخرى، في أعقاب تهميش الجيش السوري الحر، مشهد يصب في اتجاه إقناع العالم بأن بقاء الأسد - واستطرادا تسليم إيران أمن المنطقة - أفضل للغرب من نشوء بؤرة «قاعدية» جديدة على حدود إسرائيل. وحقا بدأت أصوات في واشنطن ترتفع في هذا الاتجاه. في هذه الأثناء، في العراق، فتحت حكومة نوري المالكي معركتها مع «انتفاضة الأنبار» تحت ذريعة مقاومة «داعش»، وأتاح ظهور الأخيرة في الفلوجة والرمادي ليعزززززززززززز منطلقات المالكي وسياساته التي تلقى اعتراضات متزايدة من الطيف السياسي العراقي.. ليس كلها من السنة.
وفي لبنان، حيث عادت التصفيات والتفجيرات القاتلة قبل بدء عمل المحكمة الدولية التي وجهت بالفعل اتهامات بالقتل لخمسة من أفراد حزب الله، أعلنت «داعش» أيضا دخولها «رسميا» إلى حلبته المنهكة. وطبعا، يأتي هذا الإعلان المبرر عاطفيا في شارع سني محتقن ومتألم هدية مجانية لحزب الله الطامح بدوره إلى تفويض دولي بحماية «الأقليات» وإسرائيل.. يغطيه، وبالتالي، يجعل من المحكمة الدولية نسيا منسيا.