رابع عشر: العفو
قال المأمون لعمه إبراهيم بن المهدي، وكان مع أخيه عليه: إني شاورت في أمرك فأشاروا عليَّ بقتلك، إلاَّ أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل لألزم حرمتك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشير أشار بما جَرَتْ به العادة في السياسة، إلا أنك أبيتَ أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك
نظيرٌ، وإن عفوت فلا نظير لك. وأنشأ يقول:
البرُّ منك وَطَيُّ العذر عندك لي
فيما فعلتُ فَلَمْ تَعْذِلْ ولم تَلُمِ
وقام عِلْمُكَ بي فاحتجَّ عندك لي
مقامَ شاهدِ عدلٍ غير مُتَّهَمِ
[142]
خامس عشر: المروءة
لما حضرتْ سعيدَ بن العاص الوفاةُ قال: يا بَنِيَّ، لا تفقدوا إخواني مني عندكم عين وجهي، أَجْرُوا عليهم ما كنتُ أُجْرِي، واصنعوا بهم ما كنت أصنع، ولا تُلْجِئُوهم للطلب؛ فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه، وَكَلَّ لسانه، وبدا الكلام في وجهه، اكفوهم مئونة الطلب بالعطية قبل
المسألة؛ فإني لا أجد لوجه الرجل يأتي يتقلقل على فراشه ذاكرًا موضعًا لحاجته فعدا بها عليكم لا أرى قضى حاجته عوضًا من بذل وجهه، فبادروهم بقضاء حوائجهم قبل أن يسبقوكم إليها بالمسألة.
[143]
- قال عبيد الله بن محمدٍ التيمي: سمعت ذا النُّون يقول بمصر: من أراد أن يتعلَّم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد.
قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمَّا حُمِلْتُ إلى بغداد رُمي بي على باب السلطان مقيَّدًا، فمرَّ بي رجلٌ متَّزرٌ بمنديل مصري، معتمٌّ بمنديل دَبِيقِيٍّ، بيده كيزان خزفٍ رقاقٍ وزجاج مخروط، فسألت: هذا ساقي السلطان؟ فقيل لي: لا، هذا ساقي العامة. فأومأت إليه: اسقني. فتقدَّم وسقاني، فشممت من الكوز رائحة المسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارًا. فأعطاه الدينار، فأبى وقال: لست آخذ شيئًا. فقلت له: ولم؟ فقال: أنت أسيرٌ، وليس من المروءة أن آخذ منك شيئًا. فقلت: كَمُلَ الظرف في هذا.
[144]