لم يرقها أبداً الواقع الذي يجمعها برجل خيالي ، فارس تذوي قواه في حضرتها .. فارس بلا ملامح .. سيفه ناعم .. وخصاله مثل نسائم فجر تهب على ضعفها بالحنان المفرط فتثير حقنها ، ذاك هو زوجها ، مخلوق مرهف .. وشفاف لا يتواءم مع حساسيتها الأنثوية ، وإن حاول يوماً أن يثور أو يغضب ، فيتلون محياه بحمرة الارتباك والنقمة على نفسه ، لأنه لا يقدر على إسعادها كفاية .. أو لأنه يعجز أن يكون مثالياً معها إلى درجة الكمال .. هكذا كان يعتقد لذا كان يستفزها بسلوكياته المنبثقة دائماً من محاولة إرضاؤها ، يأتيها في المساء هائماً بحبه يحمل باقة من الورود .. وهدية مغلفة بابتسامة العاشقين ، ثم يطلب إليها أن تسترخي بدلال ريثما يعد لها الطعام أو فنجال من القهوة على ضوء الشموع الخافتة ، لم يكن يحب أبداً أن يراها تجهد نفسها أو حتى يلمس لديها شيء من الضجر .. ولم يكن هذا أيضاً ما كانت تحلم هي به ، بل كانت أمنيتها تتوالد في خيالها الخصب بأن تجمعها الأيام برجل مغاير تشعر معه بكل ضعفها أمام قوته الجارفة .. رجل يعلمها فنون الحياة الفطرية .. فتحتمي بظله باحثة عن الدفء والأمان ، أما هذا الذي تعايش معه حياة مريحة للغاية .. حتماً هو بعيد كل البعد عن كل ما يجول في رأسها المتعب من خواطر مرهقة .. حتى أنها قالت له يوماً تلقي بوروده على الأرض :
- لقد مللت .. مللت هذه الحياة ..
انتفض قلبه لتذمرها .. حيث أسرع صوبها متلهفاً لنجاتها :
- ماذا تريدين حبيبتي .. هل تحبين أن نسافر كي نجدد من نشاطنا .. أم تفضلين تغيير هذا المنزل .. كي أمنحك حياة جديدة ؟
صرخت في وجهه بألم : أنت لا تفهمني .. ولن تفعل أبداً .. فأنت من يحتاج إلى التغيير ..
قال بخيبة أمل : وبماذا قصرت معك يا منى .. حتى تقولين ذلك يا عزيزتي ؟ ..
همست إليه تسمعه شهقات قلبها الرافض خنوعه إليها :
- هذه هي المصيبة .. أنك لا تقصر بشيء .. وأنا لا أريد ذلك .. أفهمت .. أنا لا أحب مثاليتك الناعمة هذه .
وظل لا يفهمها أبداً .. وتمادى أكثر في تدليله لها .. حتى عاد يوماً إلى المنزل ليجدها قد غادرته .. تاركة له رسالة كتبت فيها :
" أنا أريدك رجل قوي يعتز برجولته ، رجل لم يُخلق للخضوع لامرأة مثلي قط .. وإنما ليكون لها الزوج والشريك والحامي .. فإن استطعت أن تصبح كذلك .. فأنا لك مدى الحياة .. وإن لم تستطع فهو الفراق بيننا .. "
بعد ثلاثة أشهر أعادها والدها إلى بيتها مرغمة .. بعد أن اتهمها بقسوة أنها إمرأة مجنونة لا تدرك قيمة زوجها أبداً ..
فجلست تندب حظها في حجرتها لأنه ليس هناك ثمة رجل على الأرض يفهم مبتغاها ..
وفي المساء عاد " ماجد " إلى المنزل بوجه مكفهر .. عالماً بوجودها من خلال اتصال هاتفي من أبيها ، وكان أول ما فعله عند اقتحامه للقاعة أن نادى عليها بغلظة : منى .. يا منى ..
خرجت إليه تماطله وهي تنظر إليه بقرف : ماذا تريد ؟
اقترب منها وتوعدها بغلظة : مرة أخرى حين أناديك .. عليك أن تتركي كل شيء .. وتأتين من فورك !
أجابته ببرود وسخرية : وها قد أتيت .. فماذا تريد أيها الحالم .. الضعيف الشخصية .. ؟
فجأة رفع يده ولطمها على صدغها بعنف قائلاً : كيف تجرؤين على السخرية مني ؟
بقيت دقائق طويلة مسمرة في مكانها .. لا تستوعب ما حدث ، أهذا هو " ما جد " السلبي الشاعري .. هل يمكن أن يتبدل وبهذه السرعة .. لم تصحو إلا على صوته وهو يأمرها بتسلط :
- هيا .. اذهبي وأعدي لي الطعام .. فأنا أتضور من الجوع .. هيا .. ماذا تنتظرين .. ؟!
وبدون كلمة انصاعت لأمره وهي تقول بضعف : حالاً .. حالاً يا عزيزي ..
نعم .. لقد تغير ماجد كلياً .. يا لسعادتها .. لقد أصبح قريباً من الرجل الذي تتمناه .. بل إنه قلب حياتهما وأدوارهما رأساً على عقب .. فباتت هي التي تنتظره كل ليلة بلهفة وصبر فارغ بينما روائح الطعام الشهية تفوح على المائدة وسط الشموع والأجواء الساحرة التي صنعتها لأجله .. لأجله فقط ..
وفي لحظة صفاء سألها وهي تلقمه من الحلوى التي أعدتها له :
- ها .. هل أنت سعيدة الآن .. ؟
تنهدت بارتياح : وكيف لا أكون سعيدة يا حبيبي .. وأنت تجعلني أبدو وكأني ولدت من جديد ..
همس إليها مشاغباً : إذن فأنت تحبين الرجل القاسي والفظ ؟
عارضته برقة : بل أحب الرجل القوي .. الذي أشعر بجانبه بالأمان والحماية .. وبأنني كائن ضعيف ومدلل ..
ضحك يمزق
ستائر الليل بقهقهة صاخبة كادت أن ترجفها :
- حقاً .. إن عالمكن غريب أيتها النساء .. عالمكن غريب جداً ..