( من كيْد الشيطان)
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله :
ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس، حتى يعلم أى القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ فى تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهون عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصّر بالأول ويتجاوز بالثانى،
كما قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو. ولا يبالى بأيهما ظفر".
وقد اقتطع أكثر الناس إلاّ أقل القليل فى هذين الواديين: وادى التقصير، ووادى المجاوزة والتعدى. والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذى كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فقوم قصّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد
وكذلك قصر بقوم فى حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصى والآثام.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذى ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة.
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثلوه بهم.
وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلوا حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها. وربما ادعوا فيهم الإلهية.
وكذلك قصر باليهود فى المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلها يعبد مع الله.
وهذا باب واسع جدا لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.
( من كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ج١ ص١١٥-١١٨)