لما رأى الطاغية الأكبر أبو جهل أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة ومكابرة: لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل منهم رجلا، ولكن خذوهم أخذًا، حتى نعرفهم بسوء صنيعهم.
ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم، بقي حوله عصابة من المشركين، ضربت حوله سياجًا من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج، وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين.
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت له: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: والذي نفسه بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب حتى نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "أيكما قتله؟" فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: "هل مسحتما سيفيكما؟" فقالا: لا، فنظر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى السيفين، فقال: "كلاكما قتله"، وقضى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء.
يقول معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة ــ والحرجة الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة ــ وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه ــ أي: أطارتها ــ بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى ــ شيء كالرحى يكسر به النوى ــ حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني ــ أي: شغلني ــ القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل وهو عقير ــ أي: يصرخ بأعلى صوته ــ معوذ ابن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من ينظر ما صنع أبو جهل؟" فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ وهل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار ــ أي: أجير ــ قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ــ وكان قد وضع رجله على عنقه: لقد ارتقيت مرتقىً صعبًا يا رويعي الغنم ــ وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة ــ وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: "آلله الذي لا إله إلا هو؟" فرددها ثلاثا، ثم قال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه"، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: "هذا فرعون هذه الأمة".