بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى، لا تبع عزها بذل المعاصي! وصابر عطش الهوى في هجير1 المشتهى، وإن أمض2 وأرمض3، فإن بلغت النهاية من الصبر، فاحتكم وقل، فهو مقام "من لو أقسم على الله لأبره".
446- تالله لولا صبر عمر، ما انبسطت يده بضرب الأرض بالدرة4. ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه، وقد سمعت من آثار عزمته: "لئن أشهدني الله مشهدًا؛ ليرين الله ما أَصْنَعُ" فأقبل يوم أُحُدٍ يقاتل حتى قتل، فلم يعرف إلا ببنانه5،
ـــــــ
1 الهجير: شدة الحر وهو هنا شدة الشهوة.
2 أمض: آلم.
3 أرمض: أحرق لشدة حرّه.
4 الدرة: سوط أو عصا لينة للتأديب.
5 رواه البخاري "4048"، ومسلم "1903" عن أنس بن مالك رضي الله عنه و "البنان" طرف الأصبع.
فلولا هذا العزم، ما كان انبساط وجهه1 يوم حلف: والله، لا تكسر سن الربيع2.
447- بالله عليك، تذوق حلاوة كف الكف عن المنهيِّ؛ فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة، ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل، وقل: قد عيل صبر3 الطبع في سنيه العجاف4، فعجل لي العام الذي فيه أغاث وأعصر.
448 بالله عليك، تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة، ثم عرضت له فتنة في الوقت الأخير، كيف نطح مركبه الجرف5 فغرق وقت الصعود! أف والله للدنيا -لا بل للجنة- إن أوجب نيلها إعراض الحبيب!
449 إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه، أما ذوو الأقدار، فالألقاب قبل الأنساب قل لي: من أنت؟ وما عملك؟ وإلى أي مقام ارتفع قدرك؟
450 يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي! بالله عليك، أتدري من الرجل؟!
الرجل -والله- من إذا خلا بما يحب من المحرم، وقدر عليه، وتقلقل عطشًا إليه، نظر إلى نظر الحق إليه، فاستحى من إجالة همة فيما يكرهه، فذهب العطش.
451 كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي، أو ما لا تصدق الشهوة فيه، أو ما لا تقدر عليه!!
كذا والله عادتك! إذا تصدقت، أعطيت كسرة لا تصلح لك، أو في جماعة يمدحونك.
ـــــــ
1 في الأصل: وجه.
2 عن أنس بن مالك: أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري "2703"، ومسلم "1675".
3 عيل الصبر: فُقد.
4 العجاف: الهزلي.
5 الجرف: الساحل الصخري.هيهات! والله، لا نلت ولا يتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصةً، تبذل أطايبك، وتترك مشتهياتك، وتصبر على مكروهاتك، عِلْمًا منك -إن كنت معاملًا- بأنك أجير، وما غربت الشمس1 فإن كنت محبًّا، رأيت ذلك قليلًا في جنب رضا حبيبك عنك.