أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي التكافل والإغاثة في القرآن

التكافل والإغاثة في القرآن

يحرص الإسلام على بناء مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهة التحدِّيات والأزمات المختلفة، مجتمع حضاري راقٍ، يرحم القويُّ فيه الضعيفَ، ويعطف الغنيُّ على الفقير، ويُعطي القادرُ ذا الحاجة، كما يحرص على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخير وفعل المعروف؛ ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهجٍ رائع في بناء المجتمع البشريِّ كُلِّه، وجَعْل كلَّ فردٍ فيه متعاونًا مع غيره على الخير العام، مُغِيثًا له حال الحاجة والاضطرار.

إنَّ قيمة التكافل بين الناس، وخُلُقَ إغاثة الملهوف من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلَّا بها، إنَّها قيمٌ إنسانيَّة اجتماعيَّة راقية، وقد سبق الإسلام في تطبيقها على أرض الواقع سبقًا بعيدًا، فكانت النماذج الرائعة في الصدر الأول من الإسلام خير مُعَبِّرٍ عن هذا الخُلُق الكريم.

ولقد سلك التشريع الإسلاميُّ لتشجيع المسلمين على التمسُّك بذلك الخُلُق طُرُقًا متنوِّعة، واتَّخذ وسائل متعدَّدة؛ ذلك لأنَّه دين عمليٌّ يربط الفكرة بالعمل، كما يربط كذلك النظريَّة بالتطبيق، وليس مجرَّد خيال يُدَاعِب أحلام المصلحين، ومِنْ ثَمَّ كانت هذه الوسائل التي اعتمدها الإسلام في ترسيخ هذا المعنى ابتداءً في أذهان المسلمين، ولذلك -أيضًا- جاءت النصوص متوافرة، تؤكِّد هذا المعنى وتُعضِّده، كما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًّا للعمل التكافليِّ والإغاثيِّ.

"إنَّ الإسلام قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع اهتمامًا خاصًّا، فشرع لهم من الأحكام والوسائل ما يكفل العمل الملائم لكلِّ عاطل، والأجر العادل لكلِّ عامل، والطعام الكافي لكلِّ جائع، والعلاج المناسب لكلِّ مريض، والكساء المناسب لكلِّ عريان، والكفاية التامَّة لكلِّ محتاج، وتشمل هذه الكفاية المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لا بدَّ له منه على ما يليق بحاله بغير إسرافٍ ولا إقتارٍ لنفس الشخص، ولمن هو في نفقته"[1].

وإذا أردنا حصر النصوص من القرآن والسُّنَّة والآثار التي تؤكِّدُ هذا المعنى العظيم وجدناها من الكثرة بمكان، ومنها ما هو صريح في الحثِّ على التعاون والتكافل، وما هو سبيل للوصول إلى هذا الهدف من خلال وسائل أخرى غير مباشرة.

وقبل أن يأمر الإسلام المسلمين بالتكافل وإغاثة الملهوفين، وضع لهم الأساس الفكريَّ لقيمة التكافل، فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[2]. وهذا في الواقع أدقُّ مَثَلٍ في تصوير ما يجب من أحوال المسلمين بعضهم مع بعض.

وقد تواترت النصوص الشرعيَّة من القرآن والسنة التي تأمر وتحثُّ على التكافل والإغاثة؛ لذا سنتناول التأصيل الشرعي للعمل التكافلي والإغاثي في الإسلام من خلال التكافلوالإغاثة في القرآن.

التكافل والإغاثة في القرآن

ذكر لهم في القرآن أمثلة واقعيَّة على هذا الخُلُق العظيم من سيرة خير البشر: الأنبياء والرسل -عليهم وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام- يذكر فيها تكافلهم مع أقوامهم؛ ليتعلَّموا منها، ويقتدوا بها، ومن ذلك ما جاء في القرآن عن مريم عليها السلام في قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]، وقال -أيضًا-: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وقد كانت مريم عليها السلام يتيمة فقد تُوُفِّيَ أبواها، فكانت في حاجة إلى من يكفلها ويقوم بأمرها، وهذا مثالٌ للتسابق إلى كفالة اليتيم، ذكره الله تعالى في كتابه الكريم.

وكذلك ما ورد عن موسى عليه السلام: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]. قال القرطبي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص: 15]؛ أي طلب نصره وغوثه. وكذا قال في الآية بعدها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص: 18]. أي: يستغيث به على قبطي آخر؛ وإنَّما أغاثه لأنَّ نصر المظلوم دينٌ في الملل كُلِّها على الأمم، وفرض في جميع الشرائع[3].

وقد ورد في القرآن عن نبيِّ الله موسى عليه السلام موقفٌ إيجابيٌّ آخر، يحمل كذلك معنى التكافلوالإغاثة للمرأتين اللتين كانتا تنتظران حتى تسقيا الغنم، فسقى لهما دون أن يسألاه ذلك؛ بل اتَّسَمَ عليه السلام بالإيجابية حين سألهما عن سبب وقوفهما في هذا المكان المزدحم بالرجال، وقد صوَّر القرآن الكريم هذا المشهد العظيم، قال الله تعالى:وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 23، 24]. قال ابن كثير: معنى تذودان أي: تكفكفان غنمهما أن تَرِدَ مع غنم أولئك الرعاء لئلَّا يُؤذَيَا[4]. والشاهد أنَّهما كانتا ضعيفتين، وفي حاجةٍ إلى مَن يتكفَّل بأمرهما ويسقي لهما، فكان النبيُّ الكريم موسى عليه السلام صاحب النجدة والمروءة والخُلُق العظيم، فسقى لهما، وفي هذا بذل الجهد لإغاثة الملهوفين ونصرة المستضعفين.

وفي ظلال هذا العرض القرآني التاريخي لنماذج مشرقة من التكافل والإغاثة؛ يحثُّ الله المسلمين على هذا السلوك؛ فيأمر بالإنفاق في سبيل الله كوسيلةٍ للتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع الإنساني، وقد جاء الأمر بالإنفاق في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، ومنها قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22]؛ بل أمر الله بالتسابق والتنافس في ذلك الأمر فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].

وقد مدح الله المؤمنين الذين واسوا إخوانهم، قال الطبري في قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54]. عن سعيد بن جبير، قال: بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعفرًا في سبعين راكبًا إلى النجاشي يدعوه، فقَدِمَ عليه، فدعاه فاستجاب له وآمن به؛ فلمَّا كان عند انصرافه، قال ناس ممَّن قد آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا، فنأتي هذا النبيَّ، فنسلم به، ونساعد هؤلاء في البحر، فإنَّا أعلم بالبحر منهم. فقَدِمُوا مع جعفر على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد تهيَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لوقعة أحد؛ فلمَّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدَّة الحال، استأذنوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا نبيَّ الله، إنَّ لنا أموالًا، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أَذِنت لنا انصرفنا، فجئنا بأموالنا، وواسينا المسلمين بها. فأَذِنَ لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 54]. فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين[5]. قال القرطبي: أثنى عليهم بأنَّهم يُنفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع، وفي ذلك حضٌّ على الصدقات[6].

وكما سلك سبحانه وتعالى مسلك الترغيب سلك كذلك مسلك الترهيب؛ فقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10].

ولأهميَّة الإنفاق في سبيل الله تعالى في القيام بواجب التكافل، وإغاثة الملهوف؛ قُرِن في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم بالعبادات العظيمة والأمور المهمَّة في الإسلام، فجاء الأمر بالإنفاق مقترنًا بالصلاة، كما في قول الله {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 3]، وقوله تعالى في صفات المتَّقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقال عز وجل: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].





كما جاء الأمر بالإنفاق مقترنًا -أيضًا- بالشورى في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، وجاء -أيضًا- مقترنًا بعبادة عظيمة هي قيام الليل، قال الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].

وقُرِن الإنفاق -أيضًا- بالتقوى والسمع والطاعة، قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن: 16]. قال القرطبي: قوله تعالى: "#qà)ÏÿRصلى الله عليه وسلم&عليه السلامصلى الله عليه وسلم" قيل: هو الزكاة. قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن البصري: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنَّما أوقع قائل هذا قوله: "لِأَنْفُسِكُمْ". وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه، قال الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. وكلُّ ما يفعله الرجل من خير فإنَّما هو لنفسه، والصحيح أنَّها عامَّة[7].

إنَّ هذه الكثرة في ذكر الإنفاق في سبيل الله تعالى وبيان أهمِّيَّته وثوابه الجزيل من الله تعالى تؤكِّد أهمِّيَّة الجانب التكافليِّ في الإسلام؛ حيث إنَّ الإنفاق هو أحد أهمِّ مظاهر التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع.

ومن خلال التدبُّر في هذه الآيات الكريمة وغيرها نرى ملمَحًا مهمًّا تضمَّنته هذه الإشارات القرآنيَّة، وهو أنَّ العبادات لازمة النفع كـ الصلاة والحج والصوم وغيرها ليست كافية في تحقيق التطبيق الكامل للإسلام؛ بل لا بدَّ من عبادات أخرى معها يتعدى نفعها إلى غيرنا، ومن هذه العبادات الزكاة، والتي يُعدُّ الإنفاق في سبيل الله مظهرًا مهمًّا من مظاهرها.

وفي هذه الآيات -أيضًا- ما يُشير إلى أنَّ الإنفاق في سبيل الله لا يقتصر على حالةٍ دون أخرى، فمِنْ صفات المتَّقين أنَّهم ينفقون في السرَّاء والضرَّاء، والسرِّ والعَلَنِ، والليل والنَّهار، وفي كلِّ الأحوال.

وهذا يتضمَّن -إضافةً إلى التكافل الاجتماعيِّ والتعاون- معنى الإغاثة أيضًا، التي تتطلَّب الإنفاق ليلًا ونهارًا، وسرًّا وعلانيةً، وفي السرَّاء والضرَّاء.

كما ذكر القرآن الكريم صراحةً أنَّ في أموال الأغنياء حقًّا محدَّدًا يُعْطَى للمحتاجين؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، ولقد تولَّى الشارع بنفسه تحديد هذا الحقِّ وبيانه، ولم يترك ذلك لِجُود الموسرين، وكرم المحسنين، ومدى ما تنطوي عليه نفوسهم من رحمة، وما تحمله قلوبهم من رغبةٍ في البِرِّ والإحسان، وحُب فعل الخير[8].

ومن الآيات الجامعة في سياق الترابط بين أفراد المجتمع، قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، قال القرطبي: "هو أَمْرٌ لجميع الخلق بالتعاون على البرِّ والتقوى؛ أي لِيُعِن بعضكم بعضًا". وقال الماوردي: "ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبرِّ وقَرَنَه بالتقوى له؛ لأنَّ في التقوى رضا الله تعالى، وفي البرِّ رضا الناس، ومَن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمَّت سعادته وعمَّت نعمته"[9]. وليس بعد هذا تحبيب للمسلمين في التكافل والإغاثة.

وليست نظرة الإسلام للتكافل المادي وإغاثة الملهوف تتوقَّف بتوفير حدِّ الكفاف لهم؛ ولكنَّها تعدَّت ذلك إلى تحقيق حدِّ الكفاية، وهذا ما ظهر في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعُمَّاله: "إذا أعطيتم فأغنوا"[10]. وفوق ذلك فإنَّه قال لهم: "كرِّروا عليهم الصدقة، وإن راح على أحدهم مائة من الإبل"[11]. فإلى هذا الحدِّ يصل التكافل بين المسلمين في الإسلام، فالإسلام لا يُريد لأتباعه أن يظلُّوا أَسرى الحاجة والفقر، بل يُريد لهم جميعًا الغِنَى؛ حيث لا يحتاجون لأحد، وهذا هو قمَّة العدالة الاجتماعية، وهو المطلب الأسمى لقانون التكافل في الإسلام؛ ولهذا فإنَّ الإسلام لا يُراعي توافر الحاجات الأساسية للمحتاج فحسب؛ وإنَّما يهتمُّ بإغنائه، حتى سداد ديونه، فعن الليث بن سعد قال: كتب عمر بن عبد العزيز لعُمَّاله: "أن اقضوا عن الغارمين[12]"؛ فكُتِبَ إليه: إنَّا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكَتَبَ عمر: "إنَّه لا بدَّ للمرء المسلم من مسكنٍ يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوَّه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته نَعَم؛ فاقضوا عنه؛ فإنه غارم"[13].

وقد جعل الفقهاء ذلك قاعدةً في مناهجهم على اختلاف مذاهبهم؛ فقد جاء في (المغني) لــ ابن قدامة الحنبلي أنَّ الإمام أحمد ~ قال: "إذا كان له عقار يشغله، أو ضيعة تُساوي عشرة آلاف، أو أقل أو أكثر (ولكن) لا تُقيمه؛ فليأخذ من الزكاة"[14].

وجاء في (المجموع) لــ النووي الشافعي: "إذا كان له عقار ينقص دخله عن كفايته؛ فهو فقيرٌ أو مسكين؛ فيُعطَى من الزكاة تمام كفايته ولا يُكلَّف ببيعه"[15].

وجاء في (شرح الخرشي) للخرشي المالكي: "يجوز دفع الزكاة لمن يملك نصابًا لكثرة عياله، ولو كان له الخادم والدار التي تناسبه"[16].

وجاء في (بدائع الصنائع) لــ الكاساني الحنفي نقلًا عن الكرخي في مختصره: "يُعطَى من الزكاة مَن له مسكن، وما يتأثَّث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاح، وكتب العلم إن كان من أهله؛ لما رُويَ عن الحسن البصري أنَّه قال: "كانوا -أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعطون الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من الفَرَس والسلاح والخادم والدار"[17]. فهذه هي آراء فقهاء الإسلام على تنوُّع مذاهبهم تتَّفِق على وجوب الوصول بالمسلم المحتاج حدَّ الكفاية والغنى، وليس مجرد الكفاف.


التكافل والإغاثة في القرآن




إظهار التوقيع
توقيع : حنين الروح123
#2

افتراضي رد: التكافل والإغاثة في القرآن

بارك الله فيكِ وجزاكِ كل خير
إظهار التوقيع
توقيع : أم أمة الله
#3

افتراضي رد: التكافل والإغاثة في القرآن

جزاكي الله خير
إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#4

افتراضي رد: التكافل والإغاثة في القرآن

جزاك الله كل خير


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
الإحصائيات القرآنية والتوازن العددي للجنة اسعى❤ المنتدي الاسلامي العام
مجموعه معلومات عن القرآن الكريم للجنة اسعى❤ القرآن الكريم
ثلاثون وصية للبدء بحفظ القرآن خديجة فى قلبى القرآن الكريم
ثلاثون نصيحة لحفظ القرآن ثلاثون وصية للبدء بحفظ القرآن عہاشہقہة الہورد القرآن الكريم
كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟ وغارت الحوراء الاعجاز العلمي


الساعة الآن 12:23 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل