خرج أحمد من البیت و توجه نحو بیت صدیقه رامی، لم تكن المرة الأولى التى يذهب فيها إلى هذا الصديق، فقد ذهب إليه أكثر من مرة، وشاهد بعينيه أشياء أعجبته إلى حد كبير ، فرامى من هواة جمع طوابع البريد، وهو يملك ألبومات كثيرة بها أعداد غفيرة من كل طوابع العالم، ليس هذا فحسب، قرامى له حجرة خاصة، صنعها بمساعدة والده في قلب حديقة المنزل، حجرة من الخشب على شكل الأكواخ ذات الأسقف المائلة جعلها مشغل، أو معرض.
ولأن الأجازة الصيفية بدأت فإن أحمد كان يذهب دائما إلى رامی لیستفید من تجاربه فی جمع الطوایع، و بیستمتع بجو الحديقة الجميل في الكشك الخشبي الذي صنعه رامی بمساعدة والده، كانت نغمات خفيفة من الموسيقى الكلاسيكية تتردد من خلال ساعات معلقة علي اركان الكشك، وکان ثمة مكتب أنيق عليه بعض الأدوات الخاصة بطوابع البريد، لم یکن احمد یعرف فائدتها بالضبط.
خلف الکتب کانت تقف مکتبة بها اعداد کییرة من الألبومات، وبعض الكتب والكتالوجات التى تتحدث عن عالم الطوابع وقصة البريد. أما الجانب الأيمن من الكشك فكان به طوابع ملونة، ملصقة بطريقة فنية رائعة، وتحت كل طابع تاريخ واسم الدولة التی قامت باصداره.
كذلك كان يملك رامي مجلات كثيرة تهتم بآخر ما وصل إليه عالم الطوابع وأسماء وعناوين الكثير من الأصدقاء الذين يقيمون في مختلف دول العالم. إن رامى يشعر بسعادة ليس لها حدود، وقد شارك في الکٹیرمین المعارض الئی کان يحضرها كبار الشخصیات في المجتمع، كذلك شارك في مسابقات عديدة، وفاز فيها، بل وتفوق على من هم أكبر منه سناً. وقد التقطت له صور عديدة وهو يصافح بعض الشخصيات الهامة، رآها أحمد في الجانب الأيسر من الكشك؛ مع بعض شهادات التقدير.
عالم رائع جعل أحمد يتردد على صديقه رامى ليتعلم منه ويستفيد من خبرته في هذا المجال. جلس أحمد على كرسى مصنوع من أعواد الخيزران، وأسند ظهره على مسنده العالى، وقال: – ما معنی کلمة برید؟ ابتسم رامی وهز رأسه فی ثقة و اعتزاز وقال: “إختلف اللغويون في أصل الكلمة، فقيل إنها عربية مشتقة من “برد”. ای أرسل. ويقول “الزمخشرى “أن “البريد ” هو الرسول المستعجل، ويقول “الراغب الأصفهانى ” أنها من “برد ” أى ثبت، وجاء في ” المصباح المنير ” وفي محيط ” المحيط ” للبستانى : – البريد هو الرسول، وجمعه برده. أما دائرة المعارف الاسلامية فقد جاء بها أن (بريد) ” كلمة عربية أستعيرت من كلمة لاتينية ومعناها “دابة البريد” أو”ناقل البريد”. وراح رامی یتحدث عن اصل کلمة برید، وقد اخذ وجهه ملامح الجد وراحت عيناه تنظران إلى بعيد، إلى عالم لا يراه سواه، وکان أحمد مبهورا بهذه الثقافة، كما بهرته هذه الطوابع .. قال رامي : إن قصة البريد قصة طويلة يا أحمد، لأنه منذ فجر التاريخ، ومنذ انتشر بنو آدم في الأرض، وهم يتراسلون، سواء أكانت رسائلهم مكتوبة على قوالب الطوب، أم ألواح من الخشب، أم على مسعف النخيل، أم على ورق البردي، و کانت لد مهم وسائل النقل البرید، سواه کانت الحمام الزاجل أم رسلاً من البشر، أم أناساً يركبون الحمير أو يمتطون صهوة الجياد.
وهنا أكمل أحمد فى حماس: وتقدم الإنسان وتطورت سبل الحياة، وأصبحت الرسائل تکتب علی الورق العادی الذی نستعمله الیوم، وظهرت طوابع البريد، وشاع استعمالها في جميع أنحاء العالم .. قال رامي : بالضبط يا أحمد، وتغيرات نظم البريد فاستبدلت يالخيول ومركبات البريد السيارة والقطار والطائرة والبريد الالكترونى بواسطة الشبكة العنكبوتية وهى ما تعرف بالإنترنت وهذه لها قصة أخرى طويلة.
وفجأة تساءل أحمد: – ما سر شغفك بجمع الطوابع ؟ اجاب رامي : إنها هواية عظيمة، يهواها الملايين في كل بقاع الأرض، تضمهم هذه الهواية المشتركة، وتربطهم أواصر الصداقة، رغم ما قد یکون بيننا من فوارق فی الدین واللغة والسن والمكانة الاجتماعية، وهى هواية ليست لها قیود مثل هوایات آخری.
وفي هذه اللحظات دق جرس الباب فأصدر رتينا یشبه نغمات الکروان، ثم دخل الخادم قدم بعض المشروبات المثلجة ومعه خطابات محملة بطوابع البريد .. ابتسم رامى عندما أخذ المظاريف المحملة باللوحات الصغيرة، ثم نظر إلى الخادم قائلا: شکراً لك .
بعد أن انتهيا من احتساء المشروبات المثلجة أخرج رامى كتالوجا أنيقا به مجموعة من الطوابع النادرة ونبذة تاريخية عن كل طابع، وعن العلامة المائية، قال رامي : هذا الطابع صدر عام ١٨4٩ وهو يحمل صورة جانبية لوجه الملكة فيكتوريا، وكلمة “بريد ” بأعلاه، وواحد بنس بأسفله، وهذا الطابع يعتبر أول طابع في تاریخ الطوابع فی العالم، وکما تری فإن الطابع لیس مشرشرا کما في الطابع الانجلیزی، ورغم ذلك لم یکتب اسم بريطانيا أو انجلترا لأن صورة الملكة فيكتوريا كانت واحدها تکفی.
ثم امسك رامي بملقاط دقيق من الادوات الموجودة أمامه على المكتب والتقط طابعا في مهارة ووضعه أمام عين أحمد قائلا: -تأمل الطابع جيدا ستجد أن ثمة علامة مائية وهى تاج صغير يظهر من الخلف، تأمله تحت المصباح وسوف تری، قال احمد : لما ذا أهی نقود؟ النقود الورقیة هی التی تحمل علامات مائية حتى لايستطيع أحد تقليدها. قال رامي : -نعم با عزیزی احمد، فان الطوابع البریدیة ایضا من الممکن تقليدها، وقد تم ذلك بالفعل، وخاصة عندما انتشر تجار الطوابع المتخصصون في بيع الطوابع النادرة للهواة.
قال احمد : انت کنز معلومات يا رامی، کیف عرفت کل هذه المعلومات؟ اجابه رامي : الهواية لها أصول، وعشقك لها سوف يجعلك تمارسها وأنت راضى النفس ومسرورًا.. كذلك يتحتم عليك أن تلم بأصول وشروط الهواية التى سوف تمارسها، كأن تجمع الکتب والمجلات التی تحدث عنها، تعرف تاريخيا أهم الرواد، تنضم إلى نادى الهواة حتى تستطيع أن تمارسها وأنت على دراية كاملة بها. کانت کلمات رامی تصل إلی قلب احمد فتجعل حبہ للطوابع يزداد أكثر وأكثر، وهنا سقطت نظراته فجأة على الأدوات الصغيرة الموجودة فوق المكتب، تأملها أحمد وكانت علامات الاستفهام واضحة في عينيه الواسعتين: هز رامى رأسه وأجاب والابتسامة على وجھه الجميل: – إنها بعض لوازم الصنعة، إذ يجب على الهاوى أن تتوافر لديه، فهذا ” ملقاط ” يستعمل في إلتقاط الطابع، أو في خلعه من الألبوم، أو تثبيته في مكانه، لأن مسك الطوابع بالأصابع يؤذيها أو يضرها، والطوابع – كما ترى – أجسام رقيقة، حساسة، أما هذه ” عدسة ” مكبرة، أفحص بها الأشياء الدقيقة في الطابع والتى لایمکن رؤيتها بالعين المجردة.
وهذا لوح من المعدن الرقيق، كى أتمكن من قياس الشرشرة وعدد الثقوب، وعدد الأسنان في كل جانب من جوانب الطابع، وهناك أدوات كثيرة مختلفة تساعد الهاوى على معرفة الطابع ولصقه في أمان. قام أحمد وراح يتحرك في أنحاء المكان، يتأمل اللوحات الرائعة الصغيرة الملصقة بعناية بالغة، ثم نظر في ساعة معصمه وشعر أن جلسته طالت ويجب أن يستأذن. وهنا قام رامى بتوصيله إلى الخارج. قال أحمد وهو يصافح رامى: أرجو أن تساعدنى كى أستطيع أن أمارس هذه الهواية الرائعة. قال رامي : إن عندى أعدادا كثيرة مكررة سوف أعطيها لك، وعليك أن تشترك في نوادى الهواة، كذلك لا تجعل الفرصة تفوتك مع أى قريب أو صديق لك، أسألهم دائما عن طوابع وسوف يقومون باعطائك الطوابع التى تصلهم على المظاريف. في اليوم التالى ذهب رامى إلى منزل صديقه أحمد وقد أخذ معه مجموعة من الطوابع الزائدة عنده، وبعض الكتب والمجلات والكتالوجات التى بها أسماء وعناوين هواة الطوابع، وأيضا أهم وآخر ما وصل إليه طابع البريد. شكره أحمد على اهتمامه ومع كل يوم يمر تزداد الألفة والصداقة بين أحمد ورامى. وقد استطاع أحمد – بفضل مجهوده ونشاطه – أن يجمع أكبر عدد من الطوابع، ثم اشترك مع صديقه الحميم رامی فيی عمل معرض حضرہعددکبیر من کبار الشخصيات في المجتمع، وحصلا معا على جوائز مالية و شهادات تقدیر .