الفصل الأول
قبل عامين ….
إنه اليوم المنتظر ، لقد تخيلته آلاف المرات خلال سنوات دراستي للمحاماة ، أخيراً …سوف أبتديء تدريبي على أعمال المحاماة ، سوف أدافع عن المظلومين و أسترد الحقوق المسلوبة ، هذهِ كانت فكرتي الوردية عن عالم يرتدي أصحابه الرداء الاسود .
بهمة و نشاط أرتديتُ الطقم الرسمي الأبيض الذي اشتريته لهذا اليوم ، رفعتُ شعري الأسود كذيل حصان ليلامس طرفه منتصف ظهري سامحةً لبعض الخصل بالإنفلات على وجهي ، رسمت الكحل بعيني الخضراوتين دون أن أضيف شيئاً آخر ، و الأهم كان حملي لروب المحاماة على ذراعي .
توجهت لغرفة الطعام لأجد الجميع قد بدأ بتناول الفطور ، أبي و أمي و أخي الوحيد “مازن “
-صباح الخير جميعاً…
قال “مازن" و هو يغمز بعينه :
-صباح الورد أستاذة “سلمى"
إشتعل و جهي خجلاً لتزحف الحمرة عليه تفضحني، فكلمة أستاذة غريبةٌ على مسمعي و لم أعتدها بعد، ليضحك الجميع و بشرتي البيضاء لا تسمح لي بإخفاء الأمر .
قال “مازن" دون أن يتوقف عن الضحك :
-عليكِ أن تجدي حلاً لاحمرار وجهك كحبة الطماطم ، سوف تفضحيننا أمام القضاة و المحامين بالمحكمة.
قلت بثقة و أنا أرفع رأسي :
-لا تقلق على أختك ، فهي أخت رجال
قاطع أبي حوارنا العابث و هو يسأل أمي :
-بسام سيصل اليوم من أمريكا، صحيح ؟؟
قالت أمي و قد أشرق وجهها فرحاً :
-صحيح سيعود بعد غياب ستة سنوات و قد أصبح طبيباً ، لن تصدق فخر أختي و زوجها به .
قال أبي ساخراً و هو يرمي “مازن” بنظرات محتقرة :
-معهما حق ، فليس الكل فاشلاً و عديم النفع .
تجهم وجه “مازن" و هو يلقي الطعام من يده يعقد كفيه أمامه دون أن ينظر ناحية أبي:
-ليس جميع الأشخاص ناجحون و محترمون بهذا العالم، هناك أوغاد و قتلة و سارقين، هل تعرفهم يا أبي ؟؟
وقف “أبي” و هو يضرب المائدة أمامه يصرخ بغضب :
-أنت عديم التهذيب و قليل الأدب ، لا أعلم لما أبقيك بهذا البيت
أسرعت لمازن أمسك ذراعه أرجوه بعيني أن يتوقف عن الردّ، لقد انقلب حال مازن بالسنتين الأخيرتين ، و أصبح غريباً عما عهدته ، فهو دائم الشجار مع أبي ، تخلف عن عمله الذي كان قد بدأ به بنجاح ، هناك أمرٌ قد وقع ، و لازلت أجهله ، لقد تعودت على ابتعاد أبي عنا و انشغاله بالعمل و عدم معرفته بأمور حياتنا و هو يكتفي برؤس الأقلام من أمي ، و لكن مازن كان سندي و معقل الأمان, لكنه الآن ابتعد .
بلع “مازن” ريقه و هو يزفر بضيق ،يضع كفه على وجهي قائلاً بحنان:
-أتمنى لكِ كل التوفيق حبيبتي ، إهتمي بنفسك ، أعلم بأنكِ ستنجحين
أراد الإنصراف لكن أمي أوقفته و هي تقول :
-“مازن” أرجوك أن تتواجد في بيت خالتك الساعة السادسة مساءً ، سيتواجد الجميع للترحيب ب”بسام”.
أومأ برأسه دون أن يتكلم و خرج و أمي تحوقل بحزن ، و أبي انشغل بسيجارته يحرقها كما اعتاد عند توتره يُقلب الصفحات بهاتفه ، قلت لأمي و قد اختفت الحماسة من صوتي :
ـسأغادر الآن أمي ، لقد تأخرت
-و الفطور ؟؟
-تعلمين أنني لا أستطيع تناول الطعام عندما أتوتر ، ستُألمني معدتي ،فقط إدعي لي أمي .
-ليكن الله معكِ بكل خطوة، و يوفقك، و يرزقك العلم النافع ، و يجمعك بابن الحلال الذي يستحقك عاجلاً ليس أجل .
ضحكتُ بخفوت و أنا أغادر المنزل و أمي تقحم موضوع ابن الحلال بكل شيء ، بالكاد أقنعتها بتأجيل الأمر لحين إنتهاء دراستي ، و لا أجد السبيل الآن حتى أخبرها بأنني أريد الإنتظار حتى نهاية تدريبي و الممتد لسنتين ، ستشتعل الحرب بيني و بينها.
ركبت سيارتي الصغيرة متجةً الى المكتب ، و مقابلتي القصيرة مع الأستاذ عماد تعود لذاكرتي ، هو رجل وقور تجاوز الخمسين ، تلمع عيناه بالدهاء و الذكاء ، سريع البديهة ، يمتلك مكتباً كبيراً يضم العديد من المحامين و المتدربين، كانت موافقته على تواجدي ضمن طاقمه أمراً لا يصدق ، لقد حصلت على فرصة ثمينة يجب أن أستغلها لأكون المحامية التي أتمناها .
ركنت سيارتي أمام المجمع الذي يتواجد به مكتب الأستاذ “عماد” ، دخلت المكتب أقلب نظري بين جدرانه أشعر بالضياع أتمسك بروبي الخاص ، الآن قد وصلت ، ثم ماذا ؟
-هل تحتاجين لأمرٍ ما ؟؟
كانت هذه مديرة المكتب ، إقتربتُ منها و أنا أقول بثقة مزيفة :
-أنا “سلمي أحمد يوسف” يفترض أن أبدأ تدريبي اليوم .
نظرت إلي تقيمني من الأعلى للأسفل ، و هي تقول :
-أهلاً أستاذة “سلمى” سيصل الأستاذ “وليد” بأي لحظة ، إرتاحي قليلاً …أنا “هلا”
قلت لها وقد شعرت بالإرتباك :
-لكن يفترض أن يكون الأستاذ “عماد” المسؤول عن تدريبي.
انفلتت من “هلا” ضحكة ساخرة و هي تقول هازئة:
-يا صغيرة، الأستاذ “عماد” لا يمتلك وقتاً لسخافات المتدربين ، فالعمل يغمره تماماً ، و لولا قوانين نقابة المحامين لما قبل بإداخل أمثالكم لمكتبه .
شعرت بالغضب يتصاعد لرأسي ، وددت أن أقتلع شعر تلك المتعالية، أنا صغيرة !!!
و كيف لها أن تلبس تلك الثياب الفاضحة داخل مكتب محترم ،أبتلعتُ غضبي و أنا أجلس بمقعد استقبال الزبائن أصرِف انتباهي عنها بمراقبة المحامين القادمين و المتدربين و حركتهم السريعة و حديثهم المستعجل و تجميع الملفات و الأوراق ، كان المكتب كخلية نحل ، فبعد دقائق سينطلق الجميع للمحكمة .
دخل المكتب رجلٌ طويل ، عريض الأكتاف ، وسيم بطريق مبالغة ببدلته الرسمية ، يبدو هارباً من صفحة مجلة ،إنه خيالي ، تساءلتإن كان أمثاله موجدين حقيقة بعالمنا العادي .
دخل لمكتبه و بعد دقيقة خرج حاملاً حقيبة ملفاته و روب المحاماة الخاص به، يطلب جدول أعماله من “هلا” التي أسرعت تناوله إياه و توقفه قبل مغادرته قائلة :
-هذه الأستاذة “سلمى” يفترض أن تبدأ التدرب معك
قال دون أن ينظر بإتجاهي :
ـألن نرتاح من قِصص المتدربين هذه ، حقاً لا أملك الوقت و لا الطاقة للتعامل معهم .
خرج و قد تسمرت مكاني ، إذاً هو مجرد شكل خالي من المضمون ، ما هذه الفظاظة و قلة الإحترام ، كيف يجرأ على …
قاطعت “هلا” حربي الداخلية المكبوتة و قائمة الشتائم التي بدأتُ بقذف ذلك المتعجرف بها و هي تُلوح أمام وجهي :
-ماذا تنتظرين إلحقي به ،لا تتركيهِ ينتظر …
أسرعت أقف كما لو أن مساً كهربائياً قد أصابني، خرجتُ دون أن أنظر أمامي ، ليكتمل يومي بالإصطدام بحائط بشري يفوقني طولاً و عرضاً ، و لولا ذراعه التي ثبتتني لصدره لكنت أمسح الأرض بثيابي البيضاء الجديدة ، أسرعت بالإبتعاد منحنيه أجمع ما سقط مني و عيناه التان صعقتاني بنظراتهما تقولان ألف كلمة لم أستطع تفسيرها ، وقفتُ أمامه و أنا متأكدة بأن وجهي قد تحول لحبة طمام كما قال “مازن” .
قال الأستاذ “وليد” متهكماً:
-هل كنتِ تنتظرين بطاقة دعوة خاصة لتتكرمي باللحاقِ بي ، لا أملك وقتاً لكل هذه التفاهة، تحركي.
و دون أن ينتظر رداً مني غادر بخطوات واسعة أحاول اللحاق به بخطواتي الصغيرة و أنا أردد بداخلي:
-فظٌ و وقح ، عديم الشعور ، كيف يمكن أن أتحمله و مديرة المكتب تلك لسنتين ، يبدو أن أمي محقة، يجب أن أجلس بالبيت أنتظر عريس الهنا .
لفصل الثاني
تم وضعي بغرفة معتمة تفوح منها رائحة الرطوبة ، المقعد يقسم ظهري لنصفين و أمامي طاولة خشبية مليئة بالشظايا ، لازال قلبي يهدر بعنف و أنفاسي تقاتل للدخول و الخروج من صدري ، أغلقت عيناي مرةً تلو الأخرى ،عسى أن تنمحي صورة جسده و دمائه من أمامي و لكنها أبت أن تفارقني ، و رائحة دمائه عالقه بي تُأكد أنه رحل .
**************
جلستُ الى جانب الأستاذ “وليد” بسيارته الرياضية و أنا أتمنى بسري لو أنني تبعته بسيارتي ، خاصة بعد اصطدامي المحرج به و سقوطي على صدره كحمقاء لم تتعلم المشي ، أشعر بأن رائحة عطرهِ علقت بي ، و لازلت حائرة بنظراتهِ تلك !!! لِما كان يحدق بي بهذهِ الطريقة ؟؟ لم تكن بنظرات عادية و لا حتى متعجرفة ، لقد كان ينطق بهما بأمرٍ مخيف و غامض ، لا أشعر بالراحة معه ، إنهُ يخيفني حقاً.
نظرت ناحيتهُ بطرف عيني ، يا لها من بداية ليومٍ تخيلته مميزاً.. شجار مازن مع أبي ، و تلك ال “هلا” المتعجرفة و الآن الأستاذ الوسيم الذي يعتقد بأنه ملك العالم ، حتى هو لم يتنازل بتعريفي عن نفسه ، قليل الذوق !!
نظرتُ ناحية النافذة بجانبي أتشاغلُ عنه ، أخذت أفكر بعشاء الليلة المقام على شرف “بسام” ، حاولت أن أستجمع ذكرياتي عنه ، لقد غادر منذ ستة سنوات للولايات المتحدة ، لا أذكر الكثير عنه ، فقد كان دائم الغرق بالدراسة ، أعتقد أنه بلغ ٣٠ عاماً الآن، درس الطب هنا و تخصص بأمريكا و الآن يعود كطبيب لجراحةِ الأعصاب، خالتي قالت أن المشفى بأمريكا و مشافي أخرى قدمت له عروض عمل مغرية ، لكنه طلب بعض الوقت للتفكير و العودة للوطن .
عُلا إبنة خالتي الثانية و منذ الطفولة متيمة به ، كانت تلاحقه كظله ، لن أنسى بكائها الجنائزي يوم سفره ، هي الان تعمل كصحفية ، لقد تغيرت شخصيتها كثيراً ، و لكن حبها ل “بسام” بقي الحقيقة الثابتة المعروفة للجميع ، و موضوع زفافهما يتم طرحه بكل تجمع للعائلة .
فجأة …. شعرتُ بالسيارة تكاد تُقلب رأساً على عقب بعد أن قام “وليد” بضرب المكابح بصورة مجنونة ، تمسكت بمقعدي خوفاً و جزعاً و صرخة الرعب تصدح من حنجرتي .
حدقت بوجهه معقودة اللسان و هو يجمع ملفاته و قد أظهرت إبتسامته الساخرة أنه قد قصد إيقاف السيارة بهذهِ الطريقة ، أخذت أجمع أغراضي بصمتٍ و يداي ترتجفان أتمسك بالرداء الأسود كيومي ، لكن لا ، كيف يمكن أن تمر دقيقة واحدة بسلام مع هذا المجنون .
-أتركِ هذا الرداء الذي تجرينه خلفك ، لن تستعمليهِ قبل ستة أشهر ، و أشك أن الأستاذ “عماد” سيسمح لكِ بالترافع أمام المحكمة ، العذر منكِ ، لكن أنتِ لا تبدين جديرة بالثقة .
حدقت به بذهول ، لا أفهم سبب معاملتهِ الجافة تلك ، أنا لم أتعرض له بكلمة ، هو حتى لم يسمع صوتي حتى الآن ، لم أشعر بالغضب كما الآن ، أرغب بدق عنقهِ ، قلتُ بصوتٍ حاد و أنا أوشك على انتزاعِ إبتسامته الساخرة بيدي :
-توقف … توقف … هل أنت فاقد العقل و الأدب ، كيف تتجرأ على معاملتي بهذهِ الصورة الوقحة ، تتكلم معي بطريقة تليق بزميلة مستقبلية لك ، أو على الأقل كإنسانةٍ يجب عليك احترامها ، أنا لم أطلب منك أن تدربني و لو علمت أن مصيبتي ستكون معك ، لطلبت التسجل بمكتبٍ فاشل بدلاً من هذا العذاب
شعرت بأن صوتي قد جرح من شدة الغضب و التوتر ، لكن هو لم يهتز ، بقي ينظر إلي بذات النظرة الساخرة ، لكن فجأة اقترب بجسده مني و قد أجبرتُ على التراجع حتى التصقت بالباب خلفي ، قال و هو يميل رأسه قليلاً :
-إذاً أنتِ تمتلكين لساناً و لسان طويل حاد كالسيف ، اسمعيني صغيرتي، المحامي الحقيقي يحسن الدفاع عن نفسهِ و عن غيرهِ بكل هدوء و اتزان ، و يقابل استفزاز غيره ببرود و عدم مبالاة ، لا تسكتي عن حقك لكن لا تغضبي .
حدقت به بفمٍ مفتوح ، لا أصدق هذا الرجل !!! هل كان يهدف بتصرفاته هذهِ تلقيني درساً ما ، ما هذا الأسلوب المجنون ؟؟!!!! لو كنت أحمل سلاحاً لقتلته !!
مدّ سبابته ناحية فكي يغلق فمي قائلاً بتهكم :
-لكن أعطيكِ بعض النقاط لعدم بكائك.
خرج من السيارة و أنا أحاول كبت دموعي ، ممنوع علي البكاء أمامه مهما كان السبب ، أردت أن أخرج و لكن تفاجأت به يفتح الباب بجانبي يقبض على ذراعي بقسوة جعلتني أتألم بشدة ، دفعني بعنف ناحية السيارة و هو يصفق الباب دون أن يحرر ذراعي ، أمسكت كفه أحاول إبعاده عني :
-أُترك ذراعي ، كيف تجرأ على لمسي يا ….
قاطع كلماتي و هو يقول بصوتٍ أجوف جعل قلبي يتوقف للحظة :
-صوتك هذا لا ترفعيهِ بوجه أستاذك مرة ثانية ، هل تفهمين ؟؟
حرر ذراعي و هو يخطو ناحية المحكمة و قد تركني خلفهُ أحاول السيطرة على ارتجافي و على دموعي التي حبستها بمعجزة ، حدقت بظهره و هو يبتعد عني ، أسرعت الحق به و أنا لا أفهم ما يحدث !!! لما دخلت المحكمة خلفه كنت أعدو عدواً حتى لا أضيع منه ، و كل حماستي تكسرت على صخور قسوته و تصرفاته التى لا أفهمها .
رحلةُ العودة كانت صامتة ، لم أرفع عيني ناحيته للحظة و أنا أفكر بالإنسحاب من كل هذا ، إنه شخصٌ غير سوي .. مجنون ، هل يفعل كل هذا لإجباري على ترك مكتب الأستاذ عماد !!!
لا ، لا يمكن ، و لكن لما ؟؟ لما ؟؟
وصلنا الى المكتب أخيراً ، و قد توهمت أن رحلة تعذيبي قد انتهت ، دخل هو لمكتبه الخاص و بقيتُ واقفة بوسط مكتب السكرتارية كالبلهاء ، و نظرات “هلا” الساخرة تزيد من مقتي
أطل “وليد” من باب مكتبه ليقول بصوتٍ عالي جعل كل من في المكتب يراقب وقوفي المثير للشفقة:
-أنتِ لا تنتظري مني دعوة خاصة لكل تحركاتك؟!! أدخلي
إنصاعت قدماي لِأمره لأدخل مكتبهُ سريعاً دون تفكير وقفت أمامه و قد عاد ليجلس على مقعده الجلدي خلف مكتبه الفاخر يطالع ملفاً بين يديه ،يتجاهل وجودي تماماً
فكرتُ بأن بقائي هنا ضرب من الجنون ، لما لا أرحل و لينتهي كل شيء بهذه اللحظة ، سأتصل بالأستاذ “عماد” و أخبره بأنني لا أرغب بالتعامل مع هذا الوقح ، إستدرت لأغادر و لكن لا أعلم متى نهض ذلك المتخلف من مكانه و سدّ طريق الباب علي بجسده الضخم يستند عليه داساً يديه بجيبه كما لو كان بجلسة تصوير
-لا أصدق أنك أنتِ “سلمى أحمد يوسف” التي أثارت إعجاب الأستاذ “عماد” ، هل تستسلمين من اليوم الأول لكِ ؟
تمسكتُ بحزام حقيبتي أنشد بعض القوة و أنا أقول بحزمٍ خائب :
-إبتعد من أمامي الآن ، أريد المغادرة .
تقدم ناحيتي و هو يرفع يديه ناحيتي قائلاً بأسلوب مسرحي :
-هل أنتِ سلمي أحمد يوسف ذاتها ؟؟ ، الأولى على دفعتها ، و التي حققت مراكز متقدمة بمسابقات الجامعات بأبحاثها المتميزة !!! هل هي أنتِ حقاً ؟؟
وقف أمامي تماماً و قد أصبحت قدمي كطودٍ مثبت بالأرض غير قادرة على الحركة ، هو يعرفني و قد طالع سيرتي الذاتية التي قدمتها للأستاذ”عماد” ، عدتُ أقول له بضعفٍ و قد أصبحت دموعي أقوى من مقاومتي و أنا أهرب من عينيه أحدق بصدره الذي يسد طريقي :
-دعني أذهب ، أرجوك
-لقد علمت أنك ضعيفة الشخصية ، و هذا المكان لا يناسبك أبداً .
أصبح بكائي ضرورة لا مفر منها بدلاً من أنأتسبب لنفسي بسكتةٍ قلبية أو جلطة بالمخ ، غطيتُ وجهي بكفي و قد انحدرت دموعي بخزيٍ و عجز و حقيبتي سقطت أرضاً و قد تبعثرت محتوياتها ، سمحت لقدمي أخيراً بالإنهيار على الأريكة خلفي .
بكيتُ بصمتٍ و جسدي يهتز مرغمة ، كيف يمكن الآن أن أواجهه من جديد ، تباً له هو السبب بهذا الموقف المخزي ، سأنهض من مكاني و أخرج دون أن ألتفت إليه للحظة
-خذي هذا و امسحي دموعك
شعرت بشيءٍ خفيف يلقى على حضني ، أنزلت كفي عن وجهي أحدق بمنديلٍ قماشي أخضر اللون مثل الذي كان جدي يستعمله ، رفعت عيني بحرص لأجد “وليد” قد انحنى أرضاً يُمسك حقيبتي يجمع ما تناثر من أغراضي على أرض المكتب ، مجنون !! كيف يمكن أن ينقلب من النقيض للنقيض بجزءٍ من الثانية .
رفع عينيه فجأة لأعلق بعينيه العسليتين ..نعم هما عسليتان صافيتان ، كيف توهمت سوادهما عندما اصطدمت به صباحاً و عندما أمسك بذراعي أمام سيارته !!!
حاولت الفكاك من نظراته التي أصبحت أكثر رقة و حناناً ، أكد أقسم بأنه نادم على ما فعله معي ، هو يعتذر مني بعينيه !!!! و شيء ثاني هو … هو … هو ماذا ؟؟ أنا لا أفهم !! ما الذي يريده مني .
إرتفع رنين هاتف مكتبه ليقطع هذه اللحظة التي طالت ، أسرع ينهض عن ركبته واضعاً حقيبتي على طاولة المكتب يجيب الهاتف و أنا أسرعت بمسح وجهي بمنديله القادم من حقبةٍ مختلفة ، من ثم وقف أمام الباب يقول بتوترٍ هارباً من عيني :
-يمكنك استعمال حمامي الخاص لتغسلي وجهك ، سأطلب لكِ فنجاناً من القهوة بعد أن أتحدث للأستاذ”عماد” ، لقد طلبني
غادر سريعاً كما لو أن الهروب أصبح دوره الأن ، وقفت و أنا أشعر بالضياع ، هذا أغرب يوم عشته ، لن أصادف يوماً مثله ، ذلك المتخلف ، دخلت الحمام لأُصدم بمنظري و قد ساح الكحل ملطخاً وجهي كدب الباندا .