الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود
الهذلي رضى الله عنه الفقيه المحدِّث أحد رواة الحديث،
كان خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحب نعليه، لقَّبه النبي
صلى الله عليه وسلم بابنِ أمِّ عبدٍ.
"لَرِجْلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أُحُدٍ".
هذا ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود،
نسب عبد الله بن مسعود وفضله
هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، يُكنَّى أبا عبد الرحمن، حليف بني زهرة[1]، وأمه أم عبد بنت عبد وُد[2]، وقيل: أم عبد بنت الحارث بن زهرة[3]، كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُلقِّبه بابن أم عبد[4]، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم[5]، وهو سادس من دخل الإسلام، فعنه أنَّه قال: «لقد رأيتني سادس ستَّةٍ ما على الأرض مسلمٌ غيرنا»[6]، وقد هاجر الهجرتين[7]، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله[8]، وهو الذي أجهز على أبي جهل في غزوة بدر[9]. وقد روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعين حديثًا اتَّفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين ومسلم بخمسة وثلاثين[10].
قصة إسلام عبد الله بن مسعود
يُعدُّ عبد الله بن مسعود من أوائل الذين اعتنقوا الإسلام؛ حيث إنَّه يُعتبر سادس ستَّةٍ في الإسلام، ويُخبرنا عبد الله بن مسعود عن سبب إسلامه فيقول: كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: "يَا غُلَامُ، هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟". قال: قلت: نعم، ولكنِّي مؤتمن. قال: "فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟". فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقْلِصْ" فقلص، قال: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي، وقال: "يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ"[11]. فأسلم وحسن إسلامه.
وفي روايةٍ أخرى قال: " كنت يافعًا في غنمٍ لعقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: «يَا غُلَامُ هَلْ مَعَكَ مِنْ لَبَنٍ؟»، فقلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: «ائْتِنِي بِشَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ»، فأتيته بعناق، فاعتقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعل يمسح الضرع، ويدعو حتى أنزلت، فأتاه أبو بكر رضوان الله عليه بشيء، فاحتلب فيه، ثم قال لأبي بكر: «اشْرَبْ»، فشرب أبو بكر رضي الله عنه، ثم شرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده، ثم قال للضرع: «اقْلِصْ»، فقلص، فعاد كما كان، قال: ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: يا رسول الله علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن، فمسح رأسي، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ» قال: فلقد أخذت من فِيهِ سبعين سورةً ما نازعني فيها بشر"[12].
خدمة عبد الله بن مسعود للرسول صلى الله عليه وسلم
كان عبد الله بن مسعود ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا، وكان صاحب نعليه، وكان يدخل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويخدمه ويلزمه لا سيَّما في سفره، فعن ابْنِ عُتْبَةَ قَالَ: «كان عبد الله بن مسعود صاحب سواد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني سره)، ووساده (يعني فراشه)، وسواكه ونعليه وطهوره؛ وهذا يكون في السفر»[13].
وفي روايةٍ أخرى عن عبد الله بن شداد قال: «إنَّ عبد الله بن مسعود كان صاحب السواد والوساد والنعلين»[14].
وفي روايةٍ ثالثة عن القاسم بن عبد الرحمن قال: «كان عبد الله يُلْبِس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم ألبسه، ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم»[15].
أثر الرسول في تربية عبد الله بن مسعود
من أجل ملازمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تأثَّر به وبهديه حتى قال فيه حذيفة: "ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلًّا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من ابن أمِّ عبد"[16].
وعن أبي عطيَّة قال: "دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا: يا أمَّ المؤمنين رجلان من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أحدهما يُعجِّل الإفطار ويُعجِّل الصلاة، والآخر يُؤخِّر الإفطار ويُؤخِّر الصلاة. قالت: أيُّهما الذى يُعجِّل الإفطار ويُعجِّل الصلاة. قال: قلنا: عبد الله؛ يعني ابن مسعود. قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم"[17].
من مواقف عبد الله بن مسعود مع الرسول
بما أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان مرافقًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وملازمًا له دائمًا فكان له معه كثيرٌ من المواقف، قال عبد الله بن مسعود: «قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ". قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي". فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال: "أَمْسِكْ". فإذا عيناه تذرفان»[18].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفرٍ كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم قرشي وختناه ثقفيَّان -أو ثقفي وختناه قرشيَّان- فتكلَّموا بكلامٍ لم أفهمه، فقال أحدهم: أترون أنَّ الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنَّا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا سمعه كلَّه. فقال عبد الله: فذكرت ذلك للنبيِّ صلى الله عليه و سلم فأنزل الله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُم} إلى قوله {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23][19].
مكانة عبد الله بن مسعود عند النبي صلى الله عليه وسلم
حظي ابن مسعود بمنزلةٍ كبيرةٍ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عنه: «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا أَحَدًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمْ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ»[20]، كما عاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه حينما أمر عبد الله بن مسعود بصعود شجرةٍ يأتيه منها بشيء، فضحكوا من نحافة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَا تَضْحَكُونَ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ»[21].
وعن الأسود بن يزيد قال: سمعت أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينًا ما نرى إلَّا أنَّ عبد الله بن مسعود رجلٌ من أهل بيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نرى من دخوله ودخول أمِّه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم[22].
بعض مواقف عبد الله بن مسعود مع الصحابة
مع عبد الله بن عمرو
عن مسروق قال: ذكر عبد الله عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجلٌ لا أزال أحبُّه بعد ما سمعت رسول الله يقول: "اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -فَبَدَأَ بِهِ- وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ"[23].
عمر بن الخطاب يثني على ابن مسعود
وَلِي ابن مسعود رضي الله عنه على قضاء الكوفة وبيتِ مالها لعمر بن الخطاب، وصدرًا من خلافة عثمان[24]، ولمـَّا سيَّره عُمر رضي الله عنه إلى الكوفة كتب إلى أهلها: «إنِّي قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر فاسمعوا، وقد جعلتُ ابن مسعود على بيت مالكم فاسمعوا فتعلَّموا منهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي»[25].
أثر عبد الله بن مسعود في الآخرين
عن الأسود وعلقمة قالا: أتينا عبد الله بن مسعود في داره، فقال: أصلَّى هؤلاء خلفكم. فقلنا: لا. قال: فقوموا فصلُّوا. فلم يأمرنا بأذانٍ ولا إقامة، وذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فلمَّا ركع وضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا وطبق بين كفيه ثم أدخلهما بين فخذيه، فلمَّا صلى قال: إنَّه ستكون عليكم أمراء يُؤخِّرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة، وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وليجنأ وليُطبق بين كفيه، فلكأنِّي أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراهم[26].
وعن عبد الله بن مسعود قال: من سرَّه أن يَلْقَى الله غدًا مسلمًا فليُحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ؛ فإنَّ الله شرع لنبيِّكم -صلى الله عليه وسلم- سنن الهدى، وإنَّهنَّ من سنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيِّكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهَّر فيُحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلَّا كتب الله له بكلِّ خطوةٍ يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيِّئة، ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلَّا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤْتَى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف[27].
حال عبد الله بن مسعود مع القرآن
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حسن الصوت بالقرآن[28]، وهو أوَّل من جَهَر به بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم[29]، وكان رضي الله عنه عالمـًا به وبتفسيره، فعن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: «والله الذي لا إله غيره ما أُنْزِلت سورةٌ من كتاب الله إلَّا أنا أعلم أين أُنْزِلت. ولا أُنْزِلت آيةٌ من كتاب الله إلَّا أنا أعلم فيم أُنْزِلت. ولو أعلم أحدًا أعلم منِّي بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه»[30].
وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بابن مسعود وهو يقرأ القرآن حرفًا حرفًا[31]، فقال: «مَنْ سرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ»[32]. وفي رواية: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ»[33].
وعن شقيق ابن سلمة قال: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: "والله لقد أخذت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة. والله لقد علم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنِّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم"[34].
لمـَّا أمر الخليفة الأوَّل أبو بكر الصديق بنسخ المصاحف وجمع القرآن، وجعل ذلك لـ زيد بن ثابت، كره ابن مسعود ذلك، وقال: "يا معشر المسلمين! أُعزل عن نسخ المصاحف، ويولَّاها رجل، والله لقد أسلمت، وإنَّه لفي صلب أبيه كافر". يقصد زيد بن ثابت[35]، وقال: "لقد قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة»، وإنَّ زيد بن ثابت لصاحب ذؤابة يلعب مع الغلمان"[36].
ولمـَّا طلب عثمان بن عفان من زيد بن ثابت كتابة مصحفه وحرق ما دونه من نسخ، قال: «قد علم أصحاب محمد أنِّي أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منِّي تبلغنيه الإبل لأتيته»[37].
قال الذهبي: إنَّما شقَّ ذلك على ابن مسعود؛ لكون عثمان ما قدَّمه على كتابة المصحف، وقدَّم في ذلك من يصلح أن يكون ولده، وإنَّما عَدَل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة، ولأنَّ زيدًا كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ زيدًا هو الذي ندبه الصدِّيق لكتابة المصحف وجمع القرآن، وقد ورد أنَّ ابن مسعود رَضِيَ وتابع عثمان[38].
وفاة عبد الله بن مسعود
تُوُفِّي عبد الله بن مسعود في المدينة سنة اثنتين وثلاثين[39]، وقيل: ثلاث وثلاثين[40]، ودُفِن في البقيع[41]، وصلى عليه عثمان بن عفان[42] والزبير بن العوام[43]، وكان عمره يوم تُوفِّي بضعًا وستِّين سنة[44]، وهو الأشهر، وقيل: نيف وستين[45]، وقيل: ثلاث وستين[46].