الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذه فوائد متفرقة من مصنفات العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، أسأل الله أن ينفعني وجميع القُرَّاء بها.
راحة القلب وسروره وزوال همومه أسباب لا تجتمع كلها إلا للمؤمنين:
راحة القلب وزوال همومه وغمومه هو المطلب لكل أحد، وبه تحصل الحياة الطيبة ويتم السرور، والابتهاج، ولذلك أسباب دينية، وأسباب طبيعية، وأسباب علمية، ولا يمكن اجتماعها كلها إلا للمؤمنين، وأما من سواهم فإنها وإن حصلت لهم من وجه وسبب يجاهد عقلاؤهم عليه، فاتتهم من وجوه أنفع وأثبت وأحسن حالًا ومالًا.
من أسباب صفاء القلب ونقائه:
من أخلص أعماله كلها لله، ونصح في أموره كلها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلاف، وعدم الاختلاف، صار قلبه صافيًا نقيًّا، وصار لله وليًّا، ومن كان بخلاف ذلك، امتلأ قلبُهُ من كلِّ آفةٍ وشر، والله أعلم.
القلب الصحيح:
القلب الصحيح: هو الذي عرَف الحق واتَّبعه، وعرَف الباطل وتركه.
بركة المال ومَحْقُه:
من البركة: التَّهني بالمال، وبذله فيما يقرب إلى الله، وأن يكون زادًا لصاحبه إلى الجنة.
ومن مَحْق البركة: أن يشغله عن طاعة الله، ولا يتهنى فيه، وأن يبذله فيما حرم الله، وأن يكون خزيًا له في الدنيا والآخرة.
بركة الرزق:
أول بركة الرزق: أن يكون مؤسسًا على التقوى، والنية الصالحة،
ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة،
ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾[البقرة: 237] بالتيسير على المُوسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد خيرًا كثيرًا.
بركة الله لا نهاية لها، وجوده لا حد له:
بركة الله لا نهاية لها، وجوده لا حد له، والقليل إذا بارك فيه صار كثيرًا، ولا قليل في نعم ربنا، فله الحمد والشكر بجميع أنوعهما حمدًا على ما له من أنواع الكمالات، وشكرًا على ما أسدى إلى الخلق من الإفضالات والهبات، بالقلب واللسان والجوارح، كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
أشياء مجربة:
• الصدقة لله التي في محلها لا تنفد المال قطعًا، ولا تَنْقُصُهُ بنصِّ النبي صلى الله عليه وسلم وبالمشاهدات والتجربات المعلومة، هذا كله سوى ما لصاحبها عند الله من الثواب الجزيل، والخير والرفعة.
• العاقل يسعى في طلب الرزق بما يتضح له أنه أنفع له وأجدى في حصول مقصوده، ولا يتخبط في الأسباب خبط عشواء، لا يقر له قرار، بل إذا رأى سببًا فتح له باب رزق فليلزمه، وليثابر عليه، وليجمل في الطلب؛ ففي هذا بركة مجربة.
• كم من إنسان كان رزقه مقترًا فلما كثرت عائلته والمتعلقون به وسَّع الله له الرزق من جهات وأسباب شرعية قدرية إلهية...وكل هذا مجرب مشاهد.
• وهذا مشاهد مجرب، إذا أحب العبد أهل الخير رأيته منضمًّا إليهم، حريصًا على أن يكون مثلهم، وإذا أحب أهل الشر انضم إليهم، وعمل بأعمالهم.
• تعلق القلب بالله وحده، واللهج بذكره، والقناعة، أسباب لزوال الهموم والغموم، وانشراح الصدر، والحياة الطيبة، والضد بالضد، فلا أضيق صدرًا، ولا أكثر همًّا ممن تعلق قلبه بغير الله، ونسي ذكر الله، ولم يقنع بما آتاه الله، والتجربة أكبر شاهد.
الأسباب التي تدفع الهموم وتجلب السرور:
أعظم الأسباب لذلك وأسُّها هو: الإيمان والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح، بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار، وسبب ذلك واضح؛ فإن المؤمنين بالله الإيمان الصالح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج، وأسباب القلق والهم والأحزان؛ يتلقون المحاب والمسار بقبول لها، وشكر عليها، واستعمال لها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه، أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين،...ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكن تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد، وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره من المقاومات النافعة، والتجارب والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب؛ أمورٌ عظيمة تضمحل معها المكاره.
ومن الأسباب التي تزيل الهم والغم والقلق: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف...وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب لثوابه؛ فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير.
ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المكدرات: الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة، فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه.
ومما يدفع به الهم والقلق اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي...فيكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر.
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) فإن العبد إذا نصب عينيه هذا الملحظ الجليل، رآه يفوق قطعًا كثيرًا من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمُّه وغمُّه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.
التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حال فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا يُحصى لها عدٌّ ولا حساب وبين ما أصابه من مكروه لم يكن للمكروه نسبة.
ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همِّه وغمِّه، قال تعالى: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)).
وكذلك قوله: ((اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)).
ومن أعظم العلاجات لأمراض القلب العصبية، بل وأيضًا للأمراض البدنية: قوة القلب، وعدم انزعاجه وانفعاله للأوهام والخيالات التي تجلبها الأفكار السيئة؛ لأن الإنسان متى استسلم للخيالات، وانفعل قلبه للمؤثرات، من الخوف من الأمراض وغيرها، ومن الغضب والتشويش، ومن توقُّع حدوث المكاره وزوال المحاب، أوقعه ذلك في الهموم والغموم والأمراض القلبية والبدنية، والانهيار العصبي الذي له آثاره السيئة التي قد شاهد الناس مضارها الكثيرة. ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه...فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له.
زيارة النساء للقبور، ولقبر النبي صلى الله عليه وسلم:
يحرم على النساء زيارة القبور...واستثنى العلماء قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، فقالوا: يباح لهن زيارته، وقد تعبنا بطلب الدليل على استثنائه، فلم نجد لذلك دليلًا.
المسلمون أصبر الخلق على المصيبات:
المسلمون أصبر الخلق على المصيبات، وأعظمهم سعيًا في جميع الأسباب النافعات، وليسوا كمن صرف جميع همته في السلامة من الأمراض البدنية والفقر، ولا يبالي بدفع الأمراض الروحية التي هي أشد فتكًا وأعظم هلاكًا وأدوم شقاءً، وهي أمراض القلوب، ولا في دفع الفقر الحقيقي وهو الإفلاس من الباقيات الصالحات، فهل ينفع إصلاح الأبدان فقط مع فساد القلوب؟ وهل يفيد إصلاح الدنيا فقط مع تخريب الآخرة؟ فالمسلمون بالمعنى الحقيقي يقومون بعبودية الله التي خُلِقُوا لأجلها، ويستعينون بما في هذه الدنيا على هذا المطلوب...فهم أطيب الخلق نفوسًا، وأغناهم قلوبًا، وأشكرهم لله عند النعم والمحبوبات، وأصبرهم عند البلايا والمكروهات.
الحدود الشرعية كفيلة بردع المجرمين وتقليل الجريمة:
من زعم أن شيئًا من الأدلة العقلية التي يسميها العقلاء تخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو مغترٌّ وليأتِ بمثال واحد ولن يستطيع ذلك، نعم قد يأتي بنظريات وخيالات إذا حققت عقلًا وجدت جهليات وضلالًا مبينًا، مثل قول كثير من الملحدين: إن العقوبات والحدود التي جاء بها دين الإسلام غير لائقة ولا مناسبة للقوانين، والأحسن عندهم أن يستبدل بها الحبس والغرامة المالية.
وهذا سفسطة ومكابرة للواقع، فإن القوانين التي يسنها الملحدون ومن قلدهم على الجرائم لم تُغْنِ شيئًا، وظهر نقصها وفشلها العظيم، وأنه لا أثر لها في ردع المجرمين، وأن السبب الوحيد لردع كل مجرم تطبيق الحدود الشرعية والعقوبات الدينية، فهي الكفيلة بردع المجرمين، وهي عقوبات ونكال وموعظة لو طبقت في قطر من الأقطار لصلحت أحوالهم وقلَّ الجناة والمجرمون، وحصل الأمن على الدماء والأموال والأعراض؛ لأنها تشريع من حكيم بأحوال العباد وما يصلحهم ويقيهم الشرور.
الحريات إذا لم تقيد بالقيود الشرعية أدت إلى انحلال أخلاق الناس:
ومثل قول كثير من الماديين الملحدين ومن قلدهم تقليدًا أعمى: أنه يجب أن تكون الأفكار حرة وأن لكل أحد حريته في الرأي الذي يرتئيه والاقتراح الذي يبديه على أي حال يكون. وهذا قد ظهر أيضًا ضرره العظيم، وإن حرية الأفكار وإعطاء كل أحد حريته فيها قد تبين أنها السبب في الفوضوية وأنها أعظم من حرية الأفعال بل أصلها، فإنه متى أعطي الناس حريتهم فيها انحلت أخلاقهم وعقائدهم...وهذا هو الواقع في كل قطر أطلقت فيه الحريات ولم تقيد بالقيود الشرعية العقلية.
أخذ الحذر من الأعداء بجميع الوسائل:
قال تعالى: ﴿ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء: 102]، فهذا يتناول الأمر بإعداد المستطاع من القوة العقلية والسياسية والمادية والمعنوية، وأخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة وبكل طريق، فجميع الصناعات الدقيقة والجليلة والمخترعات والأسلحة والتحصنات داخلة في هذا العموم.
الفرج مع الكرب، والشدة لا تدوم:
الله تعالى قدر من ألطافه وعوائده الجميلة أن الفرج مع الكرب، وأن اليُسر مع العسر، وأن الضرورة لا تدوم، فإن حصل مع ذلك قوة التجاء وشدّة طمع بفضل الله ورجاء وتضرع كثير ودعاء، فتح الله عليهم من خزائن جوده ما لا يخطر بالبال.
الثقافة الصحيحة والتهذيب النافع هو ما جاء به الدين الإسلامي:
ومما يروج به المنحرفون باطلهم لهجهم الشديد بالثقافة العصرية زاعمين أن الأخلاق لا تتهذب ولا تتعدل إلا بها، ويطنبون في مدحها ومدح المثقفين فيها وفي ذم من لم تكن له هذه الثقافة والسخرية بهم، وهم يفسرونها تفاسير متباينة منحرفة، كل يتكلم بما يخطر له؛ لأن العلوم إذا كانت فوضى والأخلاق تتبعها هكذا يكون أهلها لا يتفقون في آرائهم ونظرياتهم على شيء.
والثقافة الصحيحة والتهذيب النافع هو ما جاء به الدين الإسلامي الذي هذب العقائد عن الشرك والوثنيات، وهذب الأخلاق عن كل خلق رذيل، وهذب الأعمال والآداب حتى استقامت بها الأمور وصلحت بها الأحوال، وجمعت بين الدين والدنيا، وبين تقويم المعنويات النافعة والماديات المعينة عليها.
وذلك أن المشاهدة شاهدة بما ذكرنا، فإن العلوم العصرية والمخترعات مع توسعها وتبحرها حيث كانت خالية من الدين، عجزت كل العجز عن إصلاح الأخلاق واكتسابها للفضائل الصحيحة، وعن ترفعها عن الرذائل، وإنما الذي يتكفل بهذا الإصلاح ويتولى هذا التهذيب النافع ويوجه إلى كل خير ويزجر عن كل شر هو دين الإسلام، فإنه مصلح للظاهر والباطن، لأمور الدين والدنيا.
من محاسن الإسلام:
الإسلام...ما من صلاح تسرب إلى أمة من الأمم إلا وأصله ومنبعه هذا الدين القويم، وإذا أردت أن تعرف مقداره فزنه بالميزان الصحيح والعقل الرجيح بكل دين خالفه، تجد أن لا نسبة بينها وبينه بوجه من الوجوه.
الاختلاف الظاهر سبب لاختلاف الباطن:
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) فأخبر أن الاختلاف الظاهر سبب لاختلاف الباطن... وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الخروج على ولاة الأمر والسمع والطاعة لهم، وإن ظلموا وعصوا، وما ذاك إلا لما في الخروج عليهم من الشر العظيم.
وقد أمر الله ورسوله باجتماع المسلمين في كثير من العبادات كالحج والأعياد والجمعة والجماعات؛ لما في اجتماعهم من التوادد والتواصل وعدم التقاطع.
فوائد مختصرة:
• الضحك في محله محمود، وهو دليل على حسن الخلق، ولين الجانب، كما أنه في غير محله دليل على قلة العقل.
• بركة الله لا يعدلها شيء، وليس لها منتهى.
• الصدقة تدفع بلاء الدنيا والآخرة.
شجرة الإيمان:
الإيمان شجرة أصلها الاعتقادات السلفية، وأسُّها وأصلها الإخلاص لرب البرية، وساقها الأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة، والأقوال السديدة.
من أسباب العشرة الطيبة بين الزوجين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنة، إن كَرِهَ منها خُلُقًا، رضي منها آخر))؛ رواه مسلم.
هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسم للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضدهِ، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسُوء عشرتها، رآه شيئًا واحدًا أو اثنين مثلًا! وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفًا، أغضى عن مساويها، لاضمحلالها في محاسنها، وبهذا: تدوم الصحبة، وتُؤدى الحقوق الواجبة والمستحبة، وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله.
وأما من أغضى عن المحاسن ولحظ المساوي- ولو كانت قليلة – فهذا من عدم الإنصاف، ولا يكاد يصفو مع زوجته.
احتساب الزوجة في طاعة الزوج وخدمته:
وينبغي أن تحتسب الأجر عند الله في طاعة الزوج، وخدمته، وإدخال السرور عليه، وخصوصًا إذا كَبِرَ، أو مرض، مع ما لها من الخير العاجل في ذلك، قال الله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].
البشرى للمؤمن في الدنيا والآخرة:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعملُ العمل من الخير، ويحمده أو يحبه الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن))؛ [مسم]، أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه وهم: المؤمنون المتقون بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة.
والبشارة: الخبر أو الأمر السارُّ الذي يعرفُ به العبدُ حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول.
أما في الآخرة، فهي البشارة برضا الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كما تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة.
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين- نموذجًا وتعجيلًا لفضله، وتعرفًا لهم بذلك وتنشيطًا لهم على الأعمال- فأعظمها: توفيقه لهم للخير، وعصمتُه لهم من الشرِّ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل السعادة، فييسَّرون لعمل أهل السعادة)) فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرةً له، مسهَّلةً، ومحفوظًا بحفظ الله عن الأعمال التي تضُرُّه، كان هذا من البشرى التي يَستدلُّ بها المؤمن على عاقبة أمره، فإن الله أكرمُ الأكرمين، وأجودُ الأجودين، وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمَّهُ.
ومن ذلك...إذا عمل العبدُ عملًا من أعمال الخير...وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرًا وبركة.
• ومن البشرى في الحياة الدنيا: محبةُ المؤمنين للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾[مريم: 96]؛ أي: محبة منه لهم، وتحبيبًا لهم في قلوب العباد.
• ومن ذلك: الثناء الحسن، فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم، والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
• ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له، فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
• ومن البشرى: أن يقدر الله على العبد تقديرًا يحبُّهُ أو يكرهُهُ، ويجعل ذلك التقدير وسيلةً إلى صلاح دينه، وسلامته من الشرِّ.
وأنواع ألطاف الباري لا تُعدُّ ولا تُحصى ولا تخطرُ على البال، ولا تدور في الخيال.
مراتب الدعوة إلى الله:
قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125] وهذه مراتب الدعوة إلى الله تعالى:
فالدعاء بالحكمة لمن معه فهم وحسن قصد، فيكفي في دعوته أن يبين له الحق؛ لأن معه ما معه من الرغبة يدعوه إلى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه.
والدعاء بالموعظة الحسنة يكون لمن معه شهوة وإعراض، فإنه يبين له الحق، ويرغب ويرهب، فلا يكفي فيه مجرد تبين الحق؛ لأن داعي الشهوة يمنعه من اتباع ما أمر به، فإذا قوبل بالترغيب والترهيب، كان أبلغ وأنجح.
والمجادلة بالتي هي أحسن تكون للمعارض- والعياذ بالله من ذلك- فهذا لا ينفع فيه الوعظ ولا التذكير، فيجادل بالتي هي أحسن.
الذنوب سبب العقوبات في الدنيا والآخرة:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا أمة محمد، والله ما من أحدٍ أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته)) ففي هذا: بيان أن سبب العقوبات في الدنيا والآخرة هي الذنوب، فبين غيرة الله تعالى إذا انتهكت محارمه التي من أعظمها الزنا، فإنه غالبًا لا يمهل صاحبه، والله تعالى غيور.
التعزية:
يستحب تعزية المصاب بالميت، والتعزية ليست كما يظن بعض العوام أنها مجرد قول: ((أعظم الله أجرك،وأحسن عزاك، وغفر لميتك)) بل هي كما قال أبو الوفاء بن عقيل، قال رحمه الله كلامًا معناه: إن التعزية هي أن تأتي إلى قلب قد هدته المصيبة وغيرته، فلا تزال تلقي عليه من الآيات والأحاديث والترغيب والترهيب حتى ترده إلى الحق، فهذه التعزية حقًّا، سواء كانت مشافهة، أو بكتابة إذا كان بعيدًا. وأما ما يفعله بعض الناس اليوم، بل كلهم إلا النادر، فليست بتعزيةٍ، وهي لتهييج الأحزان أقرب منها للتعزية.
مراعاة المصالح وتقديم الراجح منها:
كان الشيخ عبدالله أبا بطين يرى فطره [يقصد الشيخ يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر] ولما كان قاضيًا في عنيزة كان يعمل برأيه، فلما راح إلى بريدة، وكان قاضيها تلميذه الشيخ سليمان بن مقبل، وكان يرى صيام ذلك اليوم، فتابعه الشيخ عبدالله أبا بطين على رأيه، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر والاجتماع خير...فالعلماء رحمهم الله تعالى يراعون المصالح ويقدمون الراجح منها.
من ثمرات الإخلاص:
المخلص لله قد علق قلبه بأكمل ما تعلقت به القلوب من رضوان ربه وطلب ثوابه، وعمل على هذا المقصد الأعلى فهانت عليه المشقات، وسهلت عليه النفقات، وسمحت نفسه بأداء الحقوق كاملة موفرة، وعلم أنه قد تعوض عما فقده أفضل الأعواض وأجزل الثواب وخير الغنائم.
وأيضًا من ثمرات الإخلاص أنه يمنع منعًا باتًّا من قصد مُراءاة الناس وطلب محمدتهم، والهرب من ذمهم، والعمل لأجلهم، والوقوف عند رضاهم وسخطهم، والتقيد بإرادتهم ومرادهم، وهذا هو الحرية الصحيحة أن لا يكون القلب متقيدًا متعلقًا بأحد من الخلق. ومن ثمرات الإخلاص أن العمل القليل من المخلص يعادل الأعمال الكثيرة من غيره، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: ((لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)) وأنه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: ((رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقًا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))، وأن المخلص يصرف الله عنه السوء والفحشاء ما لا يصرفه عن غيره، قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24] قرئ بكسر اللام وفتحها، وهما متلازمتان؛ لأن الله تعالى لإخلاصهم جعلهم من المخلصين. ومن ثمرات الإخلاص الطيبة أن المخلص إذا عمل مع الناس إحسانًا قوليًّا أو فعليًّا أو ماليًّا أو غيره، لم يبال بجزائهم ولا شكرهم؛ لأنه عامل الله تعالى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
فالمخلصون هم خلاصة الخلق وصفوتهم، وهل يوجد أكمل ممن خلصت إرادتهم ومقاصدهم لله وحده، طلبًا لرضاه وثوابه.
شرح حقائق هذا الدين كافية لجذب الخلق إليه:
فلو تصدى للدعوة إلى هذا الدين رجال يشرحون حقائقه، ويُبينون للخلق مصالحه، لكان ذلك كافيًا كفاية تامة في جذب الخلق إليه؛ لما يرون من موافقته للمصالح الدينية والدنيوية، ولصلاح الظاهر والباطن من غير حاجة إلى التعرض لدفع شُبه المعارضين، والطعن في أديان المخالفين.
فإنه في نفسه يدفع كل شُبهةٍ تعارضهُ؛ لأنهُ حق مقرون بالبيان الواضح، والبراهين الموصلة إلى اليقين، فإذا كُشِفَ عن بعض حقائق هذا الدين صار أكبر داعٍ إلى قبوله ورجحانه على غيره.
وجوب معرفة ثلاثة أمور في الأسباب:
يجب على العبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: ألا يجعل منها سببًا إلا ما ثبت أنه سبب شرعًا وقدرًا.
ثانيها: ألا يعتمد العبد عليها، بل يعتمد على مسببها ومقدرها، مع القيام بالمشروع منها، وحرصه على النافع منها.
ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره ولا خروج لها عنه، والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء، إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته ليقوم بها العباد ويعرفوا تمام حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف يشاء لئلا يعتمد عليها العباد وليعلموا كمال قدرته، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده، فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب.
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه في الدنيا والآخرة:
من ترك شيئًا لله تهواه نفسه عوضه الله خيرًا منه في الدنيا والآخرة، فمن ترك معاصي الله، ونفسه تشتهيها عوضه الله إيمانًا في قلبه، وسعة، وانشراحًا، وبركة في رزقه، وصحة في بدنه، مع مَا لَهُ من ثواب الله الذي لا يقدر على وصفه، والله المستعان.
ضعف اليقين في قلوب كثيرٍ من المؤمنين:
ما أضعف اليقين في قلوب كثيرٍ من المؤمنين! تجدهم الآن قد استولى عليهم اليأس، وظنوا أن أمر الإفرنج الغربيين الآن سيظهر وسيدوم، وأن أهل الإيمان لا قيام لهم، وأنهم لا بد مغلوبون وأعداؤهم لا بد غالبون، وسبب هذا: نظرهم إلى الأسباب المدركة بالحس، وقصروا النظر عليها، ولم يقع في قلوبهم أن وراء الأسباب المشاهدة أسبابًا غيبية أقوى منها! وأمورًا إلهية لا تعارض ولا تمانع، وآفات تطرأ، وقواتٍ تزول، وضعفًا يزول، وأمورًا لا تدخل تحت الحساب، فهؤلاء أهل الكتاب، ذو القوة والشوكة، قد غرتهم أنفسهم، وظنوا أن حصونهم مانعتهم وأنهم يمتنعون فيها، ولم يخطر في قلوب المؤمنين خروجهم منها حتى جاءهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، واستولى عليهم الضعف والخراب من حيث لا يشعرون، وللكافرين أمثالها، فالمؤمن حقًّا هو الذي ينظر إلى قدر الله وقضائه، وما له من العزة والقدرة، ويعلم أن هذا لا تعارضه الأسبابُ وإن عظمت، وأن نمو الأسباب ونتاجها متحقق إذا لم يعارضه القدر، فإذا جاء القدر اضمحل عنده كل شيء، ولكن الأسباب محل حكمة الله وأمره، فأمر المؤمنين بالاستعداد لعدوهم ظاهرًا وباطنًا، فإذا فعلوا المأمور ساعدهم المقدور.
التجارات نوعان:
أحدهما: تجارة ربحها الجنات؛ وهي تجارة الإيمان والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الصف: 10، 11]، فهؤلاء هم الرابحون حقًّا، وهم الذين تحققوا بالإيمان ظاهرًا وباطنًا فاجتهدوا في علوم الإيمان...في أعماله الباطنة كمحبة الله ورسوله وخشية الله وخوفه ورجائه، وفي أعماله الظاهرة كالأعمال البدنية والمالية والمركبة منهما- وجاهدوا أنفسهم على هذا، وجاهدوا أعداء الله بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وثانيهما: تجارة ربحها الخسران وأصناف الحسرات، وهي كل تجارة مشغلة عن طاعة الله، ومفوتة لتلك التجارة الرابحة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾[الجمعة: 11] وكم في القرآن من مدح تلك التجارة والحث عليها، والثناء على أهلها، ومن ذم التجارة الأخرى والزجر عنها والذم لأهلها، وأهل التجارة الرابحة إذا اشتغلوا بتجارة المعاش لم تكن قاطعة لهم عن تجارتهم، بل ربما كانت عونًا لهم عليها إذا أحسنوا فيها النية، وسلموا من المكاسب الرديئة، وأخذوا منها مقدار الحاجة، قال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِالزَّكَاةِ ﴾[النور: 37] فلم يقل: إنهم لا يتجرون ولا يبيعون، بل أخبر أنهم لو فعلوا ذلك لم يشغلهم عن المقصود وهو ذكر الله وأمهات العبادات، وعطف البيع على التجارة-وإن كان البيع داخلًا فيها- لأنه أعظم الأسباب التي تحصل بها التجارة وأنواع المكاسب وأبركُها والله أعلم.
أسباب الخير الديني والدنيوي:
الخير الديني والدنيوي له أبواب وأسباب، من وفق لدخولها وسلوكها أفضت به إلى كل خير، وأساسها أمران: إخلاص العمل لله في كل قول وعمل وفي كل حركة وسكون. والاجتهاد في الإحسان إلى الخلق بالعلم، والنصح، والجاه، والبدن، والمال، والتوجيه إلى مصالح الدين، وإلى مصالح الدنيا، فمن وفق للإخلاص والإحسان بحسب اجتهاده ومقدوره، فقد وفق لكل خير، وهانت عليه الطاعات، وسهلت عليه المشقات، واستحلى كل صعوبة تقربه إلى الله، وأصل ذلك توفيق الله واللجوء إليه، قال شعيب صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾[هود: 88].
التوكل:
التوكل الذي لا يصحبه جد واجتهاد ليس بتوكل، وإنما هو إخلاد إلى الكسل وتقاعد عن الأمور النافعة، كما أن العمل بالأسباب من دون اعتماد وتوكل على مسببها واستعانة به، مآله الخسار والزهو والإعجاب بالنفس والخذلان، فالجمع بين التوكل على الله وبين الاجتهاد في فعل الأسباب هو الذي حثَّ عليه الدين، وهو الذي كان عليه سيد المرسلين، وبهما يتحقق الإيمان، وتقوى دعائم الدين، وبهما تقوى معنوية المسلمين، حيث اعتمدوا على رب العباد، وأدّوا ما في مقدورهم من جد واجتهاد.
قوة الإيمان والتوكل والاعتماد على الله يهون المصائب والأمراض:
الشريعة الإسلامية...أمرت...بقوة الاعتماد على الله عند نزول المصائب والمكاره، وألا يخضع الإنسان ويضعف قلبه وإرادته، وتستولي عليه الخيالات، التي هي أمراض فتاكة، فكم من مريض يسير بسيط عظمت وطأته بسبب ضعف القلب وخوره وانخداعه بالأوهام والخيالات! وكم من مرض عظيم هانت مشقته وسهلت وطأته حين اعتمد القلب على الله، وقوي إيمانه وتوكله، وزال الخوف منه! وهذا أمر مشاهد محسوس.
الأخلاق الكاملة والآداب السامية:
الأخلاق الكاملة والآداب السامية تجعل صاحبها مستقيم الظاهر والباطن، معتدل الأحوال، مكتمل الأوصاف الحسنة، طاهر القلب، نقي من كل درن وآفة، قوي القلب، متوجهًا قلبه إلى أعلى الأمور وأنفعها، قائمًا بالحقوق الواجبة والمستحبة، محمودًا عند الله وعند خلقه، قد حاز الشرف والاعتبار الحقيقي، وسلم من كل دنس وآفة، قد تواطأ ظاهره وباطنه على الاستقامة، وسلوك طريق الفلاح.
التواضع عند الاجتماع بالناس ومجالستهم وإفادتهم بما ينفهم:
إذا جالست الناس، واجتمعت بهم، فاجعل التواضع شعارك، وتقوى الله دِثارك، والنصح للعباد طريقك المستمر.
فاحرص على أن كل مجلس جلست معهم فيه يحتوي على خير، إما بحث علمي، أو نصح ديني، أو توجيه إلى مصلحة عامة أو خاصة، أو تذكير بنعم الله، أو تذكير بفضائل الأخلاق الحميدة، والآداب الحسنة، أو تحذير من شر ديني أو دنيوي، وأقل ذلك أن تغتنم إشغالهم بالمباحات عن المحرمات. وحسّن خُلقك مع الصغير والكبير والنظير، وعامل كلًّا منهم بما يليق به.
خير الناس وشر الناس:
فخير الناس: من كانت شهواته وهواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وغضبه ومدافعته في نصر الحق على الباطل.
وشر الناس: من كان صريع شهوته وغضبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فوائد المشاورة:
قال الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38]، المشاورة من أعظم الأصول والسياسات الدينية، وفيها من الفوائد: امتثال أمر الله، وسلوك الطريق التي يحبها الله حيث نعت المؤمنين بها.
وفيها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مع كمال عقله ورأيه وتأييده بالوحي كان يشاور أصحابه في الأمور المهمة.
ومن فوائدها: أنها من أكبر الأسباب لإصابة الصواب، وسلوك الوسائل النافعة لاجتماع آراء الأمة وأفكارها وتنقيحها وتصفيتها. مع أن الله يعينهم في هذه الحال التي فعلوا فيها ما أمرهم به ويسددهم ويؤيدهم.
ومنها: أن المشاورة تتنور فيها الأفكار، وتترقى المعارض والعقول، فإنها تمرين للقوة العقلية وتربية لها وتلقيح للأذهان واقتباس لبعضهم من آراء بعض.
ومنها: أنه قد يكون الصواب من مجموع رأيين أو ثلاثة أو أكثر، وإذا تقابل الصواب والخطأ ووزنتها العقول السليمة بالموازين العقلية التي لا تركن إلا إلى الحقائق الصحيحة ظهر الفرق بين الأمرين، ولا سبيل لذلك إلا بالمشاورة.
ومنها: أن المشاورة من أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين، وشعور جميعهم أن مصالحهم واحدة مشتركة، وتنبيه للأفكار والآراء على النافع والأنفع.
القصيمي وكتابه الأغلال:
هذا الكاذب موَّه على الناس، وزعم أن الذي أوصل هؤلاء المتفننين في العلوم العصرية والاختراعات نبذهم للدين، وكل أحد يعلم أن نبذهم الدين لم يوصلهم إلى مصلحة دنيوية، فضلًا عن المصالح الدينية، وإنما الذي أوصلهم إلى الترقي في هذه الفنون، جدّهم البليغ واجتهادهم ومواصلتهم الليل مع النهار في تعلمها وإدراكها وتفريغها وترقيتها، وقد تقدم لك أن الدين الإسلامي، يحثُّ على تعلم كل نافع منها، ويأمر بكل علم يعين الأمة على مقاومة الأمم ويوصلها إلى مصالحها، فمن استدل بتفوق الأجانب في علوم المادة على صلاح دينهم وفساد دين غيرهم، فهو من أجهل الخلق وأبعدهم عن المعارف بالكلية أو مغرر مموه يقصد الترويج على من لم يعرف الحقائق.
إصلاح التعليم:
من أعظم أركان التربية العامة النافعة إصلاح التعليم، والاعتناء بالمدارس العلمية، وأن يختار لها الأكفاء من المعلمين والأساتذة الصالحين الذين يتعلم التلاميذ من أخلاقهم الفاضلة قبل ما يتلقون من معلوماتهم العالية، ويختار لها من فنون العلم الأهم فالأهم من العلوم النافعة الدينية والدنيوية المؤيدة للدين، وأن تكون العلوم الدينية هي الأصل والأساس الأقوم، ويكون غيرها تبعًا لها ووسيلة إليها، وأن يكون الغرض الوحيد من المتخرجين في المدارس الناجحين في علومها أن يكونوا صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وآدابهم مصلحين لغيرهم، راشدين مرشدين، مهتمين بتربية الأمة.
فإن كثيرًا من المدارس الآن التعليم فيها قصر جدًّا، لا يعتنى فيه بأخلاق التلاميذ، ويكون تعليم الدين فيها ضعيفًا، ويكون الغرض منها المادة، وأن يخرج منها تلاميذ يصلحون للوظائف الدنيوية المادية البحتة، وهذا ضرره كبير، وسبب للضعف والانحلال، ولا ريب أن السعي في إصلاح التعليم من أهم المهمات، وبه ترتفع الأمة وتنتفع بعلمائها وعلومهم، فالتعاليم النافعة، والتربية الصالحة، تقود المسلمين إلى كل خير وفلاح، وتكون العلوم مقصودًا بها الصلاح والإصلاح.
المراد بفتنة المسيح الدجال:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن فتنة المسيح الدجال)) هذا تخصيص بعد تعميم، وخصها لأنها من أعظم الفتن، ويحتمل أن المراد بذلك: الشخص الذي ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه يخرج في آخر الزمان، وفتنته من أعظم الفتن، ومحتمل أن المراد بذلك: الجنس فيعمَّ كل فتنة من جنس فتنته وهذا أحسن من الأول؛ لأنه أعمّ.
فتنة المسيح الدجال نوعان:
نوع يراد به الشخص الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، ونوع يراد به جنس الفتنة. ووجه الحاجة إلى القسم الأول من هذين النوعين: أن نفس الاستعاذة بالله من فتنته عبادة وتضرع والتجاء إلى الله، وذلك خير محض. ثم كون ذلك الشخص مجهولًا زمان مجيئه، كل مؤمن لا يأمن على نفسه إدراك ذلك الزمان. والأمر الذي تحت الإمكان، ويخشى من شره وفتنته، معلوم حاجة العبد إلى توقي فتنته بكل سبب، ومن أكبر الأسباب الالتجاء إلى الله، والتعوذ بالله منه، وأيضًا فهذا الدعاء والخوف من فتنته لا بد أن يسري في طبقات الأمة ويتوارثوه، ويصير عقيدة راسخة، حتى إذا جاء وتحقق وقوعه، كان عند الأمة، وخصوصًا لخواصهم من العقائد الصحيحة ما يدفع شره، ويقي فتنته، بخلاف ما لو زال خوفه من القلوب، فإنه إذا جاء ذلك الوقت ازدادت به الفتنة، ولم يكن عند المؤمنين من مواد الإيمان ما يبطل فتنته وشره.
وأما القسم الثاني: فالحاجة إليه أظهر، فإن جنس فتنة المسيح الدجال هو: كل باطل زُوِّق وبُهرج، وحسِّن فيه الباطل، وقبِّح فيه الحق، وأيد بالشُّبَه التي تغر ضعفاء العقول، وتخدع غير المتبصرين، وهذا موجود وشائع، بل بحره طام في كل زمان ومكان، فالعبد مضطر غاية الاضطرار إلى ربه في أن يدفع عنه هذه الفتن التي هي من جنس فتنة المسيح الدجال؛ فتن الشبهات والشكوك، وفتن الشهوات المردية.
الإخلاص لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم:
لا أنفع للعبد من جعل الإخلاص والمتابعة نصب عينيه في كل ما يقول ويفعل حتى يكون الإخلاص له نعتًا، والمتابعة له وصفًا، وتضمحل عن قلبه جميع المقاصد والأغراض المنافية للإخلاص ويدع البدع الاعتقادية والبدع الفعلية إيثارًا للمتابعة فإن من صدَّق الرسول في كل ما يقول فقد برئ من بدع العقائد، ومن اقتصر على ما أمر به الرسول من العبادات ولم يحرم ما أحل الله من الطيبات فقد سلم من بدع الأعمال.
تفاوت الناس عند المصائب:
الناس إذا مات لهم حبيب، أو أصابتهم مصيبة متفاوتون، فأعلاهم منزلة من يقول: إن لله عليَّ حقًّا في هذه المصيبة، ولحبيبي عليَّ حق، فأشتغل بتحقيق أداء الحقين عن الاشتغال بفوات حظي من حبيب، فلله علي حق الصبر الذي لا بد منه، ولا يتم الإيمان إلا به، فإن أمكن مع ذلك الارتقاء إلى مقام الرضى والشكر اللذين هما أعلى المقامات، كان هو المغنم الأعلى والحظ العظيم، فيشتغل بهذا الحق، ويعلم أنه إذا قام به أثابه الله من الخير العاجل والآجل أعظم مما فاته بأضعاف مضاعفة، وأما حق حبيبي عليَّ من والد وقريب وصديق ونحوه، فالاشتغال به أن أعمل ما أقدر عليه من الأسباب التي يغتبط بها بعد موته من الاستغفار له، والدعاء، والصدقة، وتنفيذ وصيته، وقضاء دينه، ونشر ما تسبب في حياته من مشروع ديني وغيره، فمن كان كذلك فهو الرجل الحازم، وهو الرجل الذي وفق للقيام بالحقوق وبالوفاء بحق الحبيب، وأما من كان إذا أصيب بمثل هذه المصيبة لحظ فوات حظه فقط، فإنه تحضره الهموم والغموم والسخط، وفوات الثواب، وحصول العقاب.
مغذيات الإيمان:
ينبغي للعبد أن يسعى ويجتهد في عمل الأسباب الجالبة للإيمان، والمقوية للإيمان، ومن أعظم ذلك: تدبر القرآن، فإنه يزيد في علوم الإيمان وشواهده، ويقوي الإرادة القلبية، ويحثُّ على أعمال القلوب من التوكل، والإخلاص، والتعلق بالله الذي هو أصل الإيمان. وكذلك معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع أحاديثه، ومعرفة معجزاته، وما هو عليه من الأخلاق والأوصاف. وكذلك التفكر في ملكوت السماوات والأرض ما أودع فيها من الآيات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصفاته وآلائه. وكذلك التفكر في نعم الله الظاهرة والباطنة الخاصة والعامة، فإنها تدعو دعاء حثيثًا إلى الإيمان وتقويه...وكذلك النظر في أحوال الأنبياء والصدِّيقين وخواص المؤمنين، ومعرفة أحوالهم، وتتبُّع أمورهم، من أكبر مقويات الإيمان ومواد تغذيته. وكذلك الضرورات التي تُلجئ العبد إلى ربه وتحثُّه على تذكره وكثرة دعائه، وما ينشأ عن ذلك من تفريج الكربات وإجابة الدعوات، وحصول المسارِّ، واندفاع المضارِّ، كلها من مقويات الإيمان.
ومن أعظم مقويات الإيمان ومغذياته: اللهج بذكر الله، والإكثار من دعائه، والإنابة إليه في السراء والضراء، في جميع النوازل الخاصة والعامة، الكبيرة والصغيرة، فهي من مغذيات الإيمان، والإيمان يغذيها، فكل من الأمرين يمدُّ الآخر.
ومن مغذيات الإيمان: قوة الصبر على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى أقداره، مع استصحاب التوكل، والاستعانة بالله على ذلك، بل هو الإيمان أصلًا وفرعًا، وغذاء وثمرة.
التودد إلى الناس:
التودد إلى الناس بالأخلاق الجميلة، والبشاشة وحسن الخلق، من أكبر الأسباب لراحة القلب والبدن، والسلامة من الغل، والحقد، والمنازعات، والمخاصمات، والتعلقات المشوشة للأفكار الموجبة للأكدار.
ومن ذاق طعم حسن الخلق والتودد إلى الناس وكيف يكسب العبد بذلك من الأصحاب والأحباب ما هو من أفضل الغنائم، وكيف يسلم به من الشرور؟ وكيف ينقلب العدو صديقًا أو المبغض محبًّا؟ عرَف ما في ذلك من الخير والراحة، وأن هذه الأمور هي القسم الأكبر الذي يرشد إليه العقل.
الدعاء عبادة:
مما ينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب أو دفع مرهوب: أن لا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله، بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء، وعبادته التي هي أعلى الغايات، فيكون على يقين من نفع دعائه، وأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها، فإنه يجذب القلب إلى الله، وتلجئه حاجتُه للخضوع والتقرب لله الذي هو المقصود الأعظم في العبادة، ومن كان هذا قصده في دعائه التقرب إلى الله بالدعاء وحصول مطلوبه، فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبه فقط، كحال أكثر الناس، فإن هذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم، ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون، وهذا من ثمرات العلم النافع، فإن الجهل منع الخلق الكثير من مقاصد جليلة ووسائل جميلة، لو عرَفوها لقصدوها، ولو شعروا بها لتوسلوا إليها، والله الموفق.
إرشادات نافعة:
إياك أن تثني على نفسك، وتقدح في غيرك، فإن هذا عنوان النقص، والحمق، وإذا عانيت عملًا من الأعمال فالزم الثبات عليه.
• ينبغي للإنسان أن يحب للناس ما يحب لنفسه ويعمل لهم كما يعمل لنفسه.
• وينبغي له أن يستخير الله في أموره المشتبهة في نفعها، وفي أيهما يقدم، فإذا بان له الصواب، فليتوكل على الله وينجزها بهمة صادقة، وعزيمة جازمة مستمرة.
• وينبغي أن يكون عمل العبد الديني والدنيوي منظمًا محكمًا يأتيه في طمأنينة وتأنٍّ، وأن يكون معتدلًا لا يميل إلى أحد الطرفين الناقصين: الغلو أو التقصير، الإسراف أو البخل.
• ينبغي أن يكون مستمعًا أكثر مما يكون متكلمًا إلا إذا ترجحت المصلحة في أن يكون متكلمًا لتعليم ونحوه.
• ينبغي أن يعود نفسه على الصبر والحلم وكظم الغيظ، والعفو عن الناس؛ ليحصل له الثواب ويستريح باله.
• إياك والملل والضجر، فإن هذا عنوان الفشل والخيبة.
• احذر من الكبر والغرور واحتقار الخلق، وعليك بالتواضع والاهتمام بالخلق، ورؤية فضل ذي الفضل منهم، واللين والبشاشة لكل أحد مع الإخلاص لله، وإرادة إدخال السرور عليهم، ففي ذلك من المصالح والفوائد ما لا يعد ولا يحصى.
• إذا غلبت في أمر من الأمور، فلا يستولِ عليك الفشل بل لا تزال قوي الإرادة إلى كل ما ينفعك في حالة الانتصار وحالة ضده.
• إياك والتحسر على الأمور الماضية، التي لم تقدر لك من فقد صحة، أو مال، أو عمل دنيوي، ونحوها، وليكن همك في إصلاح عمل يومك، فإن الإنسان ابن يومه، لا يحزن لما مضى، ولا يتطلع للمستقبل حيث لا ينفعه التطلع.
• عليك بالصدق والوفاء بالعهد والوعد والإنصاف في المعاملات كلها.
المراجع: كتب الشيخ التي تمَّ الرجوع إليها:
♦ نور البصائر والألباب.
♦ بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار.
♦ شرح عمدة الأحكام.
♦ فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق المستنبطة من القرآن.
♦ الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي.
♦ القول السديد في مقاصد التوحيد.
♦ الأجوبة السعدية عن المسائل القصيمية.
♦ القواعد الفقهية.
♦ المواهب الربانية من الآيات القرآنية.
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
شبكة الالوكة