ّ(ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ )١٧-غافر تفسير الشعراوي
{ ٱلْيَوْمَ } يعني: يوم القيامة { تُجْزَىٰ } تُحاسب { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر: 17] قلنا: إن كسب تأتي للخير واكتسب للشر، وعلماء اللغة يقولون: إن كل زيادة في بنية الكلمة لابدَّ أن يقابلها زيادة في المعنى، لذلك كسب غير اكتسب. كسب على وزن فعل أيْ يأتي الفعل منك طبيعياً لا تكلّف فيه، إنما اكتسب يعني افتعل ففيه افتعال ومحاولة.
فالخير لا يحتاج منك إلى تعب، على خلاف الشر فيحتاج إلى تعب ومشقة وتلصُّص، يقول تعالى: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286]
وقد أوضحنا هذه المسـألة بالرجل الذي يجلس بين أهله وفيهم جميلات زوجته وبناته وخالاته وعماته.. إلخ فينظر إلى هذا الجمال دون تكلُّف ولا تحرّج، أمّا في غير المحارم فإنه يختلس النظرة وينفعل لها ويحاول ألاَّ يراه أحد.
كذلك نلاحظ هذه المسألة في المرأة تحمل من حلال والأخرى من الحرام، وكيف أن الأولى تُدِلّ بحملها وتتباهى به، أما الأخرى فتحاول جاهدة أنْ تُخفيه وأنْ تتخلص منه، ففرحة الأولى وحسرة الأخرى هو الفرق بين الحلال والحرام.
كذلك الإنسان إذا أخذ شيئاً من بيته يأخذه علانية بلا تكلّف وبلا تخطيط، إنما إنْ أراد أنْ يسرق من بيوت الآخرين فإنه يحتال لذلك ويخطط له، إذن: نقول الحلال لا يُتعب صاحبه إنما الحرام هو الذي يتعب الدنيا كلها.
أما في قوله تعالى: { { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً .. } [البقرة: 81]
فقد استعملت كسب هنا في الشر، فلماذا؟
قالوا: هذا حين تصير السيئةُ عند صاحبها إلْفاً وعادة يفعلها بلا تكلُّف وبلا مشقة على نفسه وكأنها حسنة، فلما تعوَّد عليها صارتْ في حقه كسْباً لا اكتساباً، وهذا الذي نسميه (الفاقد) أي: الذي تجرّأ على الحرام وألِفَ المعصية حتى صارتْ له عادة.
ومثل ذلك في النظر في قوله تعالى: { { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ } [غافر: 19] إذن: هناك خائنة أعين، وهناك أمينة أعين، أمينة أعين حين تنظر إلى الحلال، وخائنة أعين حين تنظر إلى المحرم.
حتى في الناحية الاقتصادية التي تحكم الشعوب وبها يُقاس تقدُّم الأمم ورُقيها نقول: الحلال لا يكلِّف إنما الذي يكلف الحرام - هذا من الناحية الاقتصادية - لأن الأصل في الحلال { { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } [الأعراف: 31] وفي الحديث الشريف: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع" .
ولو عِشْنا على هذه الأصول لكفَانا القليل، ولك أنْ تجرب نفسك فلا تأكل إلا على جوع، وساعتها ستجد اللقمة لذيذة ولو كانت بملح، فكأن استقامتك على دين الله تُريحك وتسترك ولا تتعبك في حركة الحياة، ولا تحتاج منك لمزيد من العمل ولمزيد من المال.
كذلك إذا أكلنا لا نشبع، وأنتم تروْنَ الذي يأكل حتى التخمة وحتى يحتاج إلى مهضم، فشقَّ على نفسه وكلفها في الطعام وفي تصريف الطعام.
ثم يقول سبحانه: { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 17] نعم لأن الحاكم في هذا اليوم هو الله العدل المطلق، وكأن الحق سبحانه يقول: الظلم عندكم أنتم أيها البشر، فقد أمهلناكم في الدنيا تربعون فيها بالظلم. يظلم القوي الضعيف، ويظلم الغني الفقير، ويظلم الحاكم المحكومين إنما اليوم { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 17] لقط وصل بكم الظلم في الدنيا إلى غايته حين أشركتم بالله.
لذلك قال سبحانه: { { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] نعم ظلم بيِّنٌ واضح؛ لأن الظلم معناه أنْ تأخذ حقَّ الغير لك، أو تأخذ الحق من صاحبه وتعطيه لغير صاحبه، وهذا هو ما حدث منكم حين أشركتم بالله فأخذتم منه سبحانه الألوهية، وجعلتموها للأصنام.
الظلم يأتي من عدة وجوه. فمن الظلم أنْ تعمل خيراً ولا تجزي به خيراً، ومن الظلم أنْ تعمل الحسنة تستحق عليها عشرة فيعطيك خمسة، ومن الظلم أن تعمل السيئة ولا تُحاسب عليها، ومن الظلم ألاَّ تعمل سيئة وتُحاسب عليها.
إذن: كل اختلال في موازين الملكية والنفعية من العمل تُعَد ظلماً؛ لذلك قال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي فلا تظالموا" .
كان هذا في الدنيا، أما في القيامة فأنتم أمام الحاكم العادل وفي رحاب العدل المطلق الذي لا يُحابي أحداً على حساب أحد، وليس له ولد ولا صاحبة فيميل عن الحق لأجلهما.
لذلك قلنا: إن الجن كانوا أصدق استقبالاً منا حين قال: { { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [الجن: 3] لأن معظم الفساد يأتي من هذين: الصاحبة والولد.
وقوله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [غافر: 17] إشارة إلى طلاقة قدرته تعالى في الفصل بين الناس وفي مجازاتهم على أعمالهم، وكأنه يقول لنا: إياكم أنْ تظنوا أن موقف الحساب يشقّ علينا، أو أنه سيأخذ وقتاً طويلاً، لا فعندنا حسابات أخرى ليس عندنا جلسة تطول ولا جلسة تتأجل.
{ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [غافر: 17] لأن الله تعالى فعلَ فِعْله بكُنْ لا يفعل بعلاج كما تفعلون، والدليل على ذلك أن في دنيا الناس آلاف وملايين القضاة يحكمون بين الناس بالحق في آلاف وملايين البلاد في وقت واحد في بلاد مختلفة ومحاكم مختلفة، والحق الذي يحكمون به ليس حقاً يتنقّل بين القضاة من قاض لآخر، إنما هو موهبة ذابتْ في نفوسهم جميعاً وصبغة صبغتْ أحكامهم جميعاً.
فإذا كان المخلوق لله وهو الحق يمكنه أنْ يستولي على نفوس القضاة في مختلف الأرض في وقت واحد، فالذي خلق هذا الحق أَوْلَى بأنْ يحكم بين الخلائق في وقت واحد.
لذلك لما سُئل الإمام علي رضي الله عنه هذه المسألة: كيف يُحَاسب الناس في وقت واحد على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
المصدر التفاسير العظيمة
////////////////
خطبة عن قوله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ)
للشيخ حامد ابراهيم
يقول ابن كثير في تفسيرها : يخبر الله تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه ، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر ، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها ، وبالسيئة واحدة ; ولهذا قال : (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ )،
كما ثبت في صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ».
إن تحقيق العدل بين الناس يقتضي وجود يوم للحساب والجزاء، لأن الكثير من المظالم لا يفصل فيها في الدنيا، والموت قد يغيب الظالم أو المظلوم قبل القصاص، والدنيا دار ابتلاء واختبار للجميع، والصبر على الابتلاءات وعلى الحرمان في الدنيا، والنجاح في اجتياز الاختبارات الدنيوية المتعددة، لابد لهما من جزاء، وهذا الجزاء يلقاه العبد في الآخرة. والفطرة السوية تدل على ضرورة وجود يوم للجزاء والحساب، وإلا لما أصبح للعدل معنى أو قيمة، ولتحولت الدنيا إلى مرتع وخيم للظلم. واليوم الآخر يوصف بأنه يوم الدين ويوم الحساب، لأن من خصائص ذلك اليوم الفصل بين الخلائق، ومجازاة المحسنين من الناس على ما قدموا، ومعاقبة الظالمين على ظلمهم. وفي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة نجد التذكير باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء ، وبالعدل الإلهي المطلق في محاسبة الناس والقصاص من الظالمين وإعطاء المظلومين حقوقهم كاملة، ففي الحديث عن الجزاء يقول الله عز وجل : {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (إبراهيم:51). وفي المحاسبة والفصل بين الناس يقول الله عز وجل : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (غافر:17). ومن آخر آيات القرآن نزولا قول الله عز وجل : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281). ويقول الله عز وجل : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر:18). وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ ، فَقَالَتْ :يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ » وفي رواية : (عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ،قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – :« مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ » .
والإيمان باليوم الآخر من الأمور التي تعين المؤمن على الصبر، فعزاء الضعفاء والمقهورين والمظلومين في الدنيا هو وجود اليوم الآخر، الذي تعاد فيه الحقوق لأصحابها، ويقتص فيه للمظلومين من الظالمين، وقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ». والإيمان باليوم الآخر مدخل جيد لدعوة غير المسلمين، سواء الذين ينغمسون في متع الدنيا الفانية ثم ينهون حياتهم بالانتحار، أو مع أولئك الذين لا يرون من الدنيا إلا الكدر والظلم. فالإيمان باليوم الآخر يمنع الإنسان من ظلم نفسه والإسراف في الملذات والمعاصي والموبقات ، والإيمان باليوم الآخر يريح الإنسان من نكد الدنيا وقسوة الحياة وظلم الآخرين، ويجعله يتطلع إلى النعيم الأبدي الذي لا ينقطع. وغرس الإيمان بالله وباليوم الآخر في نفوس النشء له أثره العميق في الوقاية من الظلم، ولذلك ينبغي أن يعلم الأولاد أن عاقبة الظلم وخيمة في الدنيا والآخرة، وأن الظالم لن يفلت من عقاب الله، وإن أفلت منه في الدنيا لسبب من الأسباب فإنه لن يفلت منه يوم القيامة، وهو اليوم الذي يجمع فيه الخلائق للفصل بينهم ومحاسبة كل إنسان على ما قدم في الحياة الدنيا، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم : (عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102)