اسمه ومولده
هو أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب، أبو الحسين الرَّازيُّ القزويني، المعروف بالرازي المالكي اللغوي، صاحب (المجمل) في اللغة[1]. ولد في قزوين[2]، وكان مُربَّاه بهمذان[3]، وأكثر مقامه بالرَّيِّ[4].
ملامح شخصيته وأخلاقه
كان ابن فارس كريمًا جوادًا لا يُبقِي شيئًا، وربما سُئل فيهب ثياب جسمه وفرش بيته. قال الرَّافعي: "وله بقزوين في الجامع صندوق فيها كتب من وَقْفِه، سنة إحدى وستين وثلاثمائة"[5].
وكان أديبًا بارعًا، وشاعرًا مجيدًا؛ من شعره:
قيل لي اختر فقلت ذا هيفٍ ***- بي من وصالي وصده برح
بدرٌ مليح القوام معتـدلٌ ***- قفاه وجهٌ ووجهـه ربـح[6]وقال يخاطب طلاب العلم:
إذا كان يؤذيك حر الصيف ***- وكرب الخريف وبرد الشتا
ويُلهِيك حسن زمان الربيع ***- فأخذك العلم قل لي متـى[7]
وكان شديد التعصب لآل العميد، فكان الصاحب إسماعيل بن عبَّاد يكرهه لذلك؛ فألَّف كتاب (الحجر) وأهداه إلى الصاحب، فقال: ردوا الحجر من حيث جاء. ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه، وأمر له بصلة وأجازه قليلاً[8].
ثم إن الصاحب في هذه الآونة كان قد زال ما بينه وبين ابن فارس من انحراف، واصطفاه حينئذٍ، وأخذ عنه الأدب، واعترف له بالأستاذية والفضل. وبعد أن استوطن الرَّيَّ كان أن انتقل ابن فارس من مذهب الإمام الشافعي إلى مذهب الإمام مالك في الفقه، وذلك في آخر عمره، وحين سُئل عن ذلك أجاب: "أخذتني الحميَّة لهذا الإمام المقبول على جميع الألسنة أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه؛ فإن الرَّيَّ أجمع البلاد للمقالات والاختلاف"[9].
وإلى جانب ذلك فقد كان ابن فارس يرى نحو الكوفة؛ يقول الشيخ عبد السلام هارون: "وابن فارس يلم أيضًا بالحياة الأدبية في عصره، ولا يتزمَّت كما يتزمت كثير من اللغويين الذين ينصرفون عن إنتاج معاصريهم ولا يقيمون له وزنًا، فهو يصغي إلى نشيدهم، ويروي لكثير منهم، وينتصر للمحسن، وينتصف له من المتعصبين الجامدين، الذين يزيِّفون شعر المحدَثين ويستسقطونه"[10].
شيوخه
سمع بقزوين أباه فارس بن زكريا، وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وعلي بن محمد بن مهرويه، وسليمان بن يزيد الفامي، وأحمد بن علان، وغيرهم[11].
وكان من شيوخه أيضًا عبد الرحمن الجلاب، وأحمد بن حميد الهمذانيين، وأبو الحسن علي بن عبد العزيز صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، وقد روى عنه ابن فارس كتابَيْ أبي عبيد: غريب الحديث، ومصنف الغريب.
وقد رحل إلى زنجان فأخذ عن أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، وأخذ أيضًا عن أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم، وسمع ببغداد من محمد بن عبد الله الدُّوري. وكان من شيوخه أيضًا أبو بكر محمد بن أحمد الأصفهاني، وعلي بن أحمد الساوي، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني[12].
تلامذته
من أشهر تلامذته أديب همذان المعروف ببديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات. وكان ممن تتلمذ أيضًا على ابن فارس أبو طالب بن فخر الدَّولة البويهي، والصاحب إسماعيل بن عبَّاد، وذلك حين انتقل إلى الرَّيِّ مقيمًا بها.
كما روى عنه حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصميري، وأبو سهل بن زيرك، وأبو منصور بن عيسى الصوفي، وأبو منصور بن المحتسب، وأبو ذر الهروي، والقاضي أبو زرعة روح بن محمد الرازي، وأبو العباس الغضبان، والقاضي أبو عبد الله الديباجي، وعلي بن القاسم الخياط المقرئ، وقد قرأ عليه كتابه (أوجز السير لخير البشر)[13].
مؤلفاته
له من التصانيف: كتاب المجمل، ومتخير الألفاظ، وفقه اللغة، وغريب إعراب القرآن، وتفسير أسماء النبي ، ومقدمة نحو، ودارات العرب، وحلية الفقهاء، والفرق، ومقدمة في الفرائض، وذخائر الكلمات، وشرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان، وكتاب الحجر، وسيرة النبي ، وكتاب الليل والنهار، وكتاب العم والخال، وكتاب أصول الفقه، وكتاب أخلاق النبي ، و(الصاحبي) صنَّفه لخزانة الصاحب، و(جامع التأويل في تفسير القرآن) أربع مجلدات، وكتاب الشِّيات والحِلَى، وكتاب خلق الإنسان، وكتاب الحماسة المحدثة، وكتاب (مقاييس اللغة)، وهو جليل لم يصنَّف مثله، وكفاية المتعلمين في اختلاف النحويين، وغيرها[14].
منهج ابن فارس في المجمل والمقاييس
من بين كتب المعاجم التي وضعت في اللغة انفرد ابن فارس في معجميه (المجمل) و(المقاييس) بطريقة خاصة تنسب إليه وحده؛ يقول الشيخ عبد السلام هارون: "جرى ابن فارس على طريقة فذَّةٍ بين مؤلفي المعجم في وضع معجميه: المجمل والمقاييس؛ فهو لم يرتِّب موادهما على أوائل الحروف وتقليباتها كما صنع ابن دريد في الجمهرة، ولم يطردها على أبواب أواخر الكلمات كما ابتدع الجوهري في الصحاح، وكما فعل ابن منظور والفيروزآبادي في معجميهما، ولم يَنْسُقْها على أوائل الحروف فقط كما صنع الزمخشري في أساس البلاغة، والفيومي في المصباح المنير، ولكنه سلك طريقًا خاصًّا به، لم يفطن إليه أحد من العلماء ولا نَبَّه عليه"[15].
وفي هذا النظام الجديد أدع الشيخ عبد السلام هارون أيضًا ليقول: "وكنت قد ظننت أنه لم يلتزم نظامًا في إيراد المواد على أوائل الحروفِ، وأنه ساقها في أبوابها هَمَلاً على غير نظام، ولكنه بتتبُّع المجمل والمقاييس ألفَيْته يلتزم النظام الدقيق التالي:
1- فهو قد قسَّم مواد اللغة أوَّلاً إلى كُتُب، تبدأ بكتاب الهمزة وتنتهي بكتاب الياء.
2- ثم قسم كل كتاب إلى أبواب ثلاثة: أوَّلها باب الثنائي المضاعف والمطابق، وثانيها أبواب الثلاثي الأصول من المواد، وثالثها بابُ ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرفٍ أصلية.
3- والأمر الدقيق في هذا التقسيم أن كل قسم من القسمين الأوَّلين قد التُزم فيه ترتيب خاص، هو ألا يبدأ بعد الحرفِ الأوَّل إلا بالذي يليه؛ ولذا جاء بابُ المضاعف في كتاب الهمزة، وباب الثلاثي مما أوله همزة وباء مرتبًا ترتيبًا طبيعيًّا على نسق حروفِ الهجاءِ.
ولكن في (باب الهمزة والتاء وما يثلثهما) يتوقع القارئ أن يأتي المؤلف بالمواد على هذا الترتيب: (أتب، أتل، أتم، أتن، أته، أتو، أتى)، ولكن الباء في (أتب) لا تلي التاء بل تسبقها؛ ولذلك أخَّرها في الترتيب إلى آخر الباب، فجعلها بعد مادة (أتى).
وفي باب التاء من المضاعف يذكر أوَّلاً (تخ) ثم (تر) إلى أن تنتهي الحروف، ثم يرجع إلى التاء والباء (تب)؛ لأن أقرب ما يلي التاء من الحروفِ في المواد المستعملة هو الخاء.
وفي أبواب الثلاثي من التاء لا يذكر أولاً التاء والهمزة وما يثلثهما، بل يؤخر هذا إلى أواخر الأبواب، ويبدأ بباب التاء والجيم وما يثلثهما، ثم باب التاء والحاء وما يثلثهما، وهكذا إلى أن ينتهي من الحروف، ثم يرجع أدراجه ويستأنف الترتيب من باب التاء والهمزة وما يثلثهما؛ وذلك لأن أقرب ما يلي التاء من الحروفِ في المواد المستعملة هو الجيم. وتجد أيضًا أن الحرفَ الثالث يراعى فيه هذا الترتيب، ففي باب التاء والواو وما يثلثهما يبدأ بـ (توي) ثم (توب) ثم (توت) إلى آخره؛ وذلك لأن أقرب الحروفِ التي تلي الواو هو الياء.
وفي باب الثاء من المضاعف لا يبدأ بالثَّاء والهمزة ثم بالثَّاء والباء، بل يُرْجِئ ذلك إلى أواخر الأبواب، ويبدأ بالثَّاء والجيم (ثج)، ثم بالثَّاء والراء (ثر) إلى أن تنتهي الحروف، ثم يستأنف الترتيب بالثَّاء الهمزة (ثأ)، ثم بالثَّاء والبَاء (ثب).
وفي أبواب الثلاثي من الثَّاء لا يبدأ بالثَّاء والهمزة وما يثلثهما ثم يعقِّب بالثَّاء والباء وما يثلثهما، بل يدع ذلك إلى أواخر الأبواب؛ فيبدأ بالثَّاء والجيم وما يثلثهما إلى أن تنتهي الحروف، ثم يرجع إلى الأبواب التي تركها. وتجد أيضًا أن الحرف الثَّالث يراعى فيه الترتيب، ففي باب الثَّاء واللام وما يثلثهما يكون هذا الترتيب (ثلم، ثلب، ثلث، ثلج،...) إلخ.
وفي باب الجيم من المضاعف يبدأ بالجيم والحاء (جح) إلى أن تنتهي الحروف (جو)، ثم ينسقُ بعد ذلك (جأ، جب).
وفي أبوب الثلاثي من الجيم يبدأ بباب الجيم والحاء وما يثلثهما إلى أن تنتهي الحروف، ثم يذكر باب الجيم والهمزة وما يثلثهما، ثم باب الجيم والباء، ثم الجيم والثاء، مع مراعاة الترتيب في الحرف الثالث، ففي الجيم والنون وما يثلثهما يبدأ أوّلاً بـ (جنه) ثم (جني)، ويعود بعد ذلك إلى (جنأ، جنب، جنث) إلخ"[16].
وبعد ذلك يقول الشيخ عبد السلام هارون: "هذا هو الترتيب الذي التزمه ابن فارس في كتابيه المجمل والمقاييس، وهو بِدْع كما ترى"[17].
آراء العلماء فيه
في وصف بليغ لابن فارس، قال الذهبي: "وكان رأسًا في الأدب، بصيرًا بفقه مالك، مناظرًا متكلمًا على طريقة أهل الحق، ومذهبه في النحو على طريقة الكوفيين، جمع إتقان العلم إلى ظرف أهل الكتابة والشعر"[18]. ويقول القاضي عياض: "وكان أديبًا شاعرًا مجيدًا في ذلك، وقد ذكره أبو منصور الثعالبي في يتيمته في جملة شعراء أهل الجبل من كتابه"[19].
وقد قال الصفدي والذهبي: "وكان ابن فارس بالجبل نظير ابن لنكك بالعراق، جمع إتقان العلماء الظرفاء والكُتَّاب الشعراء"[20].
وقال سعد بن علي الزنجاجي: "كان أبو الحسين بن فارس من أئمة اللغة، محتجًّا به في جميع الجهات، غير منازع"[21].
يقول ابن خلكان: "كان ابن فارس إمامًا في علوم شتى، وخصوصًا اللغة، فإنه أتقنها وألَّف كتاب (المجمل) فيها، جمع على اختصاره شيئًا كثيرًا"[22]. وقد أورد الذهبي قول بعضهم: "كان إذا ذكرت اللغة فهو صاحب مجملها، لا بل صاحبها المجمِّل لها"[23].
وفي ذلك أيضًا يقول الشيخ عبد السلام هارون: "لم يكن ابن فارس من العلماء الذين ينْزَوُون على أنفسهم ويكتفون بمجالس العلم والتعليم، بل كان متصلاً بالحياة أكمل اتصال، مادًّا بسببه إلى نواحٍ شتى منها؛ فهو شاعر يقول الشعر ويرقّ فيه، حتى لَينمَّ شعره عن ظَرفه وحسن تأتِّيهِ في الصنعة على طريقة شعراء دهره"[24].
آراء العلماء في مؤلفاته
قال تلميذه الصاحب إسماعيل بن عبَّاد عن مؤلفاته: "شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف، وأمن فيه من التصحيف"[25]. وحين كان ياقوت يستعرض مؤلفات ابن فارس في معجمه، جاء عند (المقاييس) فقال: "وهو كتاب جليل، لم يصنَّف مثله"[26].
وفي المقاييس نفسه يقول أيضًا الشيخ عبد السلام هارون: "على أن ابن فارس في كتابه هذا (المقاييس) قد بلغ الغاية في الحذق باللغة، وتكنُّه أسرارها، وفهم أصولها؛ إذ يردُّ مفرداتِ كلِّ مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة فلا يكاد يخطئه التوفيق، وقد انفرد من بين اللغويين بهذا التأليف، لم يسبقه أحدٌ ولم يخلُفْه أحد"[27].
وفاته
في تاريخ وفاته كان هناك آراء خمسة، يبدأ أوَّلها بسنة ستين وثلاثمائة من الهجرة، وينتهي آخرها بسنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وهذا القول الأخير هو أصح الأقوال وأرجحها؛ وذلك أن أغلب أصحاب التراجم ذهبوا إليه، بل وهناك من حدَّده، فقال سعد بن علي الزنجاجي -ونقله عنه الذهبي، وكذا أرَّخه عبد الرحمن بن منده وغيره-: "تُوُفِّي في صفر، سنة خمس وتسعين وثلاثمائة"[28].
بل إن ياقوت في معجمه ذكر أنه عثر على نسخة قديمة من كتاب (المجمل)، وكان في آخرها ما صورته: "قضى الشيخ أبو الحسين أحمد بن فارس -رحمه الله- في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالرَّيِّ، ودفن بها مقابل مشهد قاضي القضاة أبي الحسن علي بن عبد العزيز، يعني الجرجاني"[29].
وعن بعض الآراء الأخرى التي أرَّخت لوفاته قبل ذلك التاريخ، قال ياقوت بعد أن عرض لاثنين منها: "وكل منهما لا اعتبار به؛ لأني وجدتُ خطَّ كفِّه على كتاب (الفصيح) تصنيفه، وقد كتبه في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة"[30].
وقد روى أكثر من ترجم له أنه أنشد قبل وفاته بيومين:
يا ربِّ إنَّ ذنوبي قد أحطتَ بها ***- علمًا وبي وبإعلاني وإسـراري
أنا الموحِّـد لكني المقـرُّ بهـا ***- فهبْ ذنوبي لتوحيدي وإقراري[31].