جريمةُ أبوين
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ أما بعدُ:
فحدثني من حدثَ فقالَ: رأيتُ طفلاً بينهُ وبينَ البلوغِ مفاوزٌ يحملُ بينَ شفتيهِ الصغيرتينِ جذوةً متلهبةً عرفتُ تفاصيلَ وجههِ من ضوئِها فهي تلتهبُ ولا تكادُ تخبو يستنشقُها كما يستنشقُ الهواءَ الباردَ السائرَ إلى جوفهِ.!
رأيتهُ يسيرُ وميزانُ الليلِ قدْ مالَ والقمرُ في المُحاقِ والطريقُ موحشٌ خالٍ إلا من أعقابهِ الصغيرةِ!
رأيتهُ في وقتٍ لا يكونُ لداتهُ فيهِ إلا في أحضانِ أمهاتِهمُ الدافئةِ وتحتَ أبصارِ آبائِهمُ الحانيةِ في مملكةِ الأسرةِ المترابطةِ الآمنةِ!
رأيتهُ يسيرُ وحدهُ ولا أنيسَ لهُ إلا تلك الجمرةِ التي دفنَ بها طفولةُ وصحتهُ!
تلك الجمرةُ التي أحرقتْ جسوماً هي أشدُ وأقوى من جسمهِ اللينِ النحيلِ وأفسدتْ عقولاً هي أكبرُ وأحدُ من عقلهِ الغمرِ الصغيرِ يضعُها على قلبٍ هو أضعفُ القلوبِ تحملاً للماءِ النميرِ!
فقلتُ لنفسي:لمَ يطرقُ هذا السبيلَ ؟!
أ راغبٌ هو عن الحبِ والحنانِ ؟!
أ زاهدٌ هو بالأمنِ والطمأنينةِ ؟!
فلما أحسَ بوقعِ نظري عليهِ خبأَ جمرتهُ في باطنِ كفهِ فعزمتُ على نصحهِ حينَ رأيتُ منهِ ذلك.فلما أثقلتُ عليهِ النصحَ واللومَ قالَ :أ تعلمُ أنَّ الدارَ عند أبويَّ للأكلِ والنومِ! لا تعجبْ فأنا لستُ من جلسائِهما وإنَّه لتمرُ عليَّ الليالي ذواتِ العددِ فلا أحسُ منهم من أحدٍ ولا أسمعُ لهمْ ركزا!
فقلتُ وقد أخذني العجبُ: ويوم الأكلِ ألا تراهما ويوم النومِ ألا تقعدُ معهُما ؟!
قال: لا! فأبي قدْ عهدَ بالأمرِ لأمي وحذرَها أنْ يرى أحداً منا عند مطعمهِ أو منامهِ.!
قلتُ: وأمكَ ؟!
فسكتَ! فعلّيتُ عليهِ السؤالَ حتى قالَ: أمي عهدتِ بالأمرِ للوصيفةِ(*) التي لا دينُها دينُنا ولا لسانُها لسانُنا وأوصتْها بأنْ تُمضي بياضَ يومِها وسوادَ ليلِها معنا وأنْ لا ترى وجوهُنا إلا في أوقاتِ فراغِها حينَ تعودُ !
وإنْ ضاقتِ الوصيفةُ بنا تركتْنا أمامَ الرائي(1) ننهلُ من مزابلِ الغربِ ونعبُ من أوساخِ الكفرِ.!
و إنْ نصحَهُما أحدٌ أو جادلهما مخلوقٌ نهراهُ وقالا لهُ لقد أكثرتَ نصحَنا وجدالنا وكأنَّنا هضمنا حقَهم وقدرَنا عليهم رزقهم ثم انظرْ إلى الدارِ فلقدْ ملأناها بأسبابِ الحياةِ الكريمةِ الرغيدةِ!
فيسدانِ بهذا الجوابِ أفواهَ الناصحينَ!
أ فتلومني حين أبقتُ من بيتٍ كالمفازةِ خالٍ من أسبابِ الحياةِ ؟!
قالَ الراوي:
فقلتُ في نفسي :ما أراني أعرفُ من كلامِهما إلا أنهما جاهلانِ قدْ رِينَ على قلبيهما فلا يفرقانِ بينَ (التربيةِ) و(التسمينِ) وإنَّ هناك بوناً كبيراً بينَ تربيةِ الإنسانِ وتربيةِ الحيوانِ.!
وبينا(2) أنا كذلك إذ ركضَ الطفلُ إلى عنقِ الشارعِ وانضمَ لثلةٍ من الأطفالِ الشاردينَ. عرفتُ ذلك من أسمالِهمُ القذرةِ وأقدامِهمُ الحافيةِ !
فاسترجعتُ! ومضيتُ في طريقي والحزنُ يفتُ قلبي من أجلهِ ومن أجلِهم!
قلتُ : لقد صدقَ الأميرُ:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواهُ من***- همِ الحياةِ وخلفــاهُ ذليلا
فأصابَ بالدنيا الحكيمةِ منهما***- وبحسنِ تربيةِ الزمانِ بديلا
إنَّ اليتيمَ هو الذي تلقى له***- أماً تخلتْ أو أباً مشغــولا
كتبها: حسين بن رشود العفنان