الوليد بن المغيرة
أما الإنكار فمثال ذلك الوليد بن المغيرة عندما سمع القرآن الكريم وكـأنما رقَّ له فقالت قريش : صبأ والله الوليد , ولتصبونَّ قريش كلهم . فأوفدوا إليه أبا جهل يثبر كبرياءه واعتزازه بنسبه وماله ويطلب إليه أن يقول في القرآن قولاً يعلم به قومه أنه له كاره . قال : ( فماذا أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشه الذي يقوله شيئاً من هذا . والله : إن لقوله لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليحطم ما تحته , وإنه ليعلوا وما يعلى عليه ) قال أبو جهل : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني أفكَّ فيه . فلما فكَّر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه ؟ ..
وخلى كلامه من الحقيقة بعد أن رأى جاذبية القرآن الكريم فكيف هذا القرآن وما يُحدثه في قلب كل من يستمع له ويكون منه حائراً لا يستطيع ان يرسى لبر هذه الحيرة إلا إن شهد شهادة حق لهذا الكتاب العظيم الذي أنزله من خلق السماوات بعظمتها والأرض بوسعها ! وحال الوليد كحال لسان غيره ممن أرادوا إنكار الحق المبين ولقد رد عليهم القرآن الكريم { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت 26 , فالغلبة عند هؤلاء المتكبرين ليست بالحوار كما أمرنا القرآن الكريم بالحوار ولكن الغلبة بـ { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ } فنتيجة ذلك كما يزعمون { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فلم يقولوا ما قالوه هذا إلا لما أحسوه من روعة وجمال القرآن في أعماقهم ..
فعظمة القرآن الكريم أمام مشركي مكة كأن نملة أمام مبناً عالي فلا أعتقد أن تلك النملة الصغيرة قد تفكر يوماً في بناء مثل هذا ! فالقرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه المشركون وقد تحداهم القرآن الكريم بأن يأتوا بعشر سور مثله قال تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} هود13. وعندما عجزوا تحداهم القرآن بسورة واحدة ! فقال تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } يونس38. ولم يأتوا ولو بسورة واحدة !
وتأثير القرآن يظهر غالباً بالبكاء فكما ذكرت من قبل في رواية إسلام عمر رضي الله عنه وكما ذكر القرآن الكريم في صدد الحديث عن أهل الكتاب فيقول :
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ , وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } المائدة 82, 83 ..
ولم يكن الأمر للإنسان فحسب بل أيضاً للجماد الذي نرآه جامداً لا يتحرك ولكن الله عز وجل وصفه بالتصدع والخشية من الله عز وجل فيقول الله عز وجل { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } الحشر 21 , فالإنسان بالرغم من أن خلق الله عز وجل له العقل إلا أنه كان ظلوماً جهولاً ولكن المؤمن حين يسمعه يكون { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } المائدة83 ويطمئن قلبه { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد13 ولكن كانوا يعترفون بالحق دائماً فهم من قالوا { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ } وكان الهدف من قولهِم هذا { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت26 ..
منبع التأثير في القرآن
عندما سمع عُمر بن الخطاب القرآن الكريم رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن القرآن الكريم قد أكتمل حينذاك ولم يكن الإعجاز التشريعي " التشريع المُحكم " قد أكتمل ولم يكن الإعجاز الكوني قد أكتشفه البشر , ولم تكن رحمة التشريعات في الحدود قد اكتملت وطُبقت ولم يكن الإعجاز الغيبي قد تم ! فما في تلك السور القلائل التي تجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي ؟ وجعلت الوليد بن المغيرة يمدح في القرآن ؟ وما الذي جعل الكافرين قبل المؤمنين يحبونها بل ويسعون لتلك السور!
ومع أن عدد الذين دخلوا الإسلام كانوا قلة , إلا أن الكثرة الكثيرة أسلمت بعد أن ظهر المسلمون وظهر الإسلام بصورة كاملة بتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام منهجاً وعقيدة , فبعد أن دخلوا في دين الله أفرداً في مكة دخلوا في دين الله أفواجاً في المدينة ..
نعود لما كنا نقوله أن القرآن الكريم رغم انه لم يكن يحتوي على الصور الإعجازية كاملة في القرآن الكريم إلا أن نبع التأثير القرآني كان موجوداً في تلك السور , فالوليد بن المغيرة سمع سورة المدثر وهي ثالث السور نزولاً في القرآن الكريم ومع ذلك كان التأثير موجوداً ! وسورة العلق أيضاً هي أول السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما من يقرأها يقول أنها سجع كُهان أو حكمة السجاع ولكن في السجع تكون الجمل متناثرة فهل الأمر نفسه في سورة العلق ؟
الجواب : لا , فهذا نسق متناسق ..
بسم الله الرحمن الرحيم
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ , خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ , اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ , الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ , كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى , أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى , إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى , أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى , عَبْدًا إِذَا صَلَّى , أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى , أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى , أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى , أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى , كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ , نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ , فَلْيَدْعُ نَادِيَه , سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ , كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } العلق
بدأ في بداية السورة الاستقراء فهي من أول السور نزولاً فاستفتحها بالبسملة وباسم الله , { بِاسْمِ رَبِّكَ } فليختر من صفات الرب الصفة التي بها معنى البدء { الَّذِي خَلَقَ } بدأ من المرحلة الأولية وهي خلق الإنسان وليس هذا فحسب بل وبدأ مما لا يُنظر حتى بالعين المجردة ! { خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } شيئاً حقير وصغير جداً فجعله الله إنساناً كريماً كرمه الله وأسجد له الملائكة , وبعد هذا نقله من كونه مخلوق من علق إلى كرم الله عز وجل { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ , الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فنقله من المنشأ إلى المصير ولكَ أن تتخيل ما مر به الإنسان بين النقطة التي لا يراها الإنسان بالعين المجردة وكونه إنساناً كاملاً وكل ما في جسمه مُعقد التركيب , لا وكل جزء منه مُعقد كان لا يُرى بالعين المجردة والآن أكمل الله خلقه إنساناً كاملاً يفكر ويعقل الأمور !! وكل هذا لم يكن هباءاً ولكن ذكره العلي القدير لسببٍ جلي !
{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى , أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }
فمع عظمة خلق الله وانه خالق الإنسان ومُعلمه إلا أن الإنسان يطغى ! كان من المتوقع أن يدرك الإنسان فضل الله عز وجل عليه من قبل ولادته ووجوده في الحياة إلى مماتهِ ولكن وللأسف لم يدرك هذا كله وطغى ! وأعتقد بأنه قد استغني عن من خلق السماوات والأرض وما بينهما !
وبعد هذا أعقب الله عز وجل ما فعله الكافر وطغيانه بقوله { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } فتخيل انك تمشي في طريق وهذا الطريق سوف يودي إلى شخص أنت تَسبهُ فهل ستتمادى في سبه ؟ فليس لك إلا خيارين إما أن تعود عن الطريق وهذا لا تستطيع فعله لأنك ستموت وتبعث وستعود إلى الله عز وجل والحساب سيكون بما فعلت وإما أن تراجع نفسك فيما تقول وما تفعل وما تؤمن لأنك ستعود إلى الله عز وجل وستحاسب فليس لك إلا خيارا واحدا !! وانتقلت الآيات من كونه ظالماً لنفسهِ إلى ما سواه { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى , عَبْدًا إِذَا صَلَّى } فلم يكتفي بما يفعله مع نفسهِ ولكنه ينهى عبداً يصلي عن صلاته إنها لكبيرة أن يُنهى العبد عن الصلاة فأكمل الله عز وجل { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى , أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } فلم يقتصر الأمر عن نهيه عن الصلاة ولكن نهاه عن الأمر بالمعروف أيضاً ! فأنزل الله تهديداً آخر لكل طاغياً بعد أن قال الله عز وجل { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } فيقول { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى , أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } ويأتي بعد ذلك اللفظ الشديد والتصوير التي تقشعر له الأبدان من قوته ..
فمع أن الله عز وجل بدأ بالإنسان منذ أن كان شيئاً لا يُرى وفجأة الإنسان يقرأ ويتعلم فكذلك الأمر بعد أن كان الإنسان الطاغي متكبراً ورأسه مرفوعة من الكبرياء فجعلها الله عز وجل أول ما يؤخذ منه المتكبر { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ , نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } صورة لأخذ الطاغي سريعاً , من ناصيته أي أعلى الرأس , وبعد ذلك قال الله عز وجل { فَلْيَدْعُ نَادِيَه , سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } قد يُتخيل للقارئ معركة بين الزبانية وأهل ناديه وهي معركة تشغل عقولنا وجميعنا يعلم نتيجتها ولكن كيف ؟ هذا ما يشغل بالنا , فليس لنا إلا طريقا واحداً { كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فلتتخيل ما سيحدث من تلاقي بشر بملائكة العذاب ووصفهم وقوتهم وطاعتهم معروفة ..
والحمد لله رب العالمين
معاذ عليان
باحِث في الدين المُقارن والنقد الكتابي
منقول