من يعش بلا ماءٍ أو صديقٍ فهو على شفا هلكة ؛ الماءُ يجري في الجسد ، والصديقُ يسري في الروح !
فسلامٌ يملأ الأفقَ لأولئك الأطهارِ الذين حَلُّوا بينَ الجوانحِ فأحالوا الظُّلمةَ صباحا ، والوحشة ارتياحا ، ورعى الله غُدُوَّهم ورَوَاحَهُم ، وسدَّدَ في دروبِ الخيرِ ممشاهُم !
***- ***- *
الأصدقاء الصادقون : ذواتُنا انفصلتْ عن أجسادِنا ، وسكنتْ بين جلالِهِم وروعةِ حديثِهِم ؛ نحنُ نَضمُّهم ، ونشتاقُ لـمرآهم لأننا نَشَمُّ في أرديتهم أنفاسَنا ، ونسمعُ بين حروفِهِم وقعَ أرواحِنا الهارِبَةِ !
الحياة أصعبُ ودروبُـها أوعرُ من أن تعبرَها بلا صديق ، والصداقةُ ميثاقٌ غليظٌ في الفؤادِ ، ونهرٌ دفاقٌ زاخرٌ بمعاني الطُّهرِ والنقاءِ ، وقصةٌ مثيرةٌ مُؤَثِّرَةٌ ؛ مَشَاعِرُ الإنسانِ تَنْدَلِقُ كالبراكينِ دونَ سَابِقِ إنذارٍ بين فوَّهَاتِ النفسِ ، وتثورُ بلا رحمةٍ في فتوقِ القلبِ حيْنَما يَشِعُّ أحدُ الأوفياءِ ، وتظلُّ الروحُ تَسْبَحُ في عوالمَ مضيئةَ كلما حقَّقَ الأصدقاءُ ما لم نحقِّقْهُ بِسَبَبِ عجزِنا ، أو فتورِ هِمَمِنا ، قلتُها مرةً لصديق - من أعماقِ قَلْبي - : أَنْتَ تحقِّقُ في دأبِكَ وحرصِكَ في هذا المشروعِ ما لم أحقِّقْه ، وصدِّقني : أشعرُ أنَّكَ تَـخْطو بِقَدَمي ، وتَصْعَدُ بروحي ! ، وهي مَشَاعِرُهُ أغدَقَهَا عَليَّ ، فسَرَتْ مِنِّي إليه! ، وأحدُهُم في ليلةِ امتحانٍ شديدٍ له ، كان يُهيئُ نفسَهُ له زمنًا طويلا ، أَقسَمْتُ له غيرَ حانِثٍ أنِّي لم تهنأْ عيني بنومٍ طيلةَ البارحةِ ، وسَبَقتُهُ للجامِعَةِ في الصباحِ ، وأنا أَشْعرُ أنِّي سأُمتحنُ بدلا عنه ، ومضى على هذه الحادثةِ سنينُ وما زلتُ أمحضُهُ المودةَ والوفاءَ ، والنَّفسُ كما قيل : تعرف الصِّدقَ في العيونِ ، وترمقُ الخيرَ في الجفونِ ، وتقضي الحوائجَ بالحواجب ! ، فكم مِّن صديقِ عمرٍ أفصحتْ عيناه بالوفاءِ لأولِ وهلةٍ ، وارتاحتْ النَّفْسُ لمرآهُ لأولِ لقاء ، واستقامَ طيلة العُمْرِ على نُبْلِهِ ، وَمَا بدَّل تَبْديلا !
أرواحُنا تظمأُ وتنطرحُ ، ونفوسُنا تَمْرَضُ وتَئِنُّ ، وهي كالجسدِ تُصابُ بالانفلونزا والرشحِ والزُّكامِ ، ولا يعيدُ لها صلابةَ البُنيانِ ، بعدَ اليقينِ والإيمانِ ، سِوى صديقٍ تسقطُ بينَنَا وبينَهُ مَئُونَةُ التَحَفُّظِ ؛ مَنْ أرمقُهُ , وأنا مستقبلٌ محرابَ عينَيهِ ، وأرى حَدَقَتَيهِ شُرفَتَينِ ورديَّتَينِ في ليلِ شتاءٍ قارسٍ ، أُطِلُّ مِنْهُمَا على آفاقِ الضَّوءِ ، ويصلُ إليَّ منهُما خيوطُ الفَجْرِ !
فأبوحُ له ما يَعْتمُلُ في الحنايا ، ويتلَجْلَجُ في الصَّدرِ ، من عقباتِ الزمانِ الصعبِ ، وأمواجِ الحياةِ العاتية ، ومن إذا جلستُ إليه ويا للصَّفَاءِ !
كأنِّـي جالسٌ لوحدي !
لن أنسى موقِفَهُ في الصَّيفِ الماضي لـمَّا رآني ذاتَ مساءٍ ، أشربُ أحزاني ، وأرتشفُ قلقي ، وعلى وجهي عَلائِمُ انتصارِ الهمِّ ، فلم يَمُرَّ بأخيهِ مرَّ السحابِ ، بل هَدَمَ بُنيانَ الضيقِ بمعاولِ البوحِ والتَّشاكي ، وأَجْلسَني إلى جانبِهِ ، يقتسمُ همِّي ، ويقتلعُ الغَمَّ من جذورِهِ السَّحيقةِ في داخلي ، رأيتُهُ بأمِّ عيني يفرشُ لقدمَيَّ دربَ التفاؤلِ ، وبكفَّيهِ الطاهرتين يغرِسُ السَّكينةَ بِقلبي ، لم يقمْ عَنِّي إلا وقد اطمَأنَّ أنَّه أعادَ لوَجْهي ضِيَاءَهُ ، ولثَغْريَ رَونقَهُ ؛ تفجَأُني رسالتُهُ بين الحينِ والحينِ في دَعَوَاتٍ صادِقَةٍ آخرَ الليلِ ، وأخرى في آخرِ ساعةٍ يومَ الجمعةِ ، لو رأيتني أنا وهو يتسع لجسدينا أضيق الأخبية ويضيق عن محبتنا الكون بأسره! ؛ قد بلوتُهُ سِنينا ؛ ليس مِنْ هؤلاءِ رَخيصي الأشواق ، قاطعي العهودِ مع كلِّ عابر ، مِـمَّن تَشتَعلُ عواطفُهُم كالبركانِ ، ثُمَّ تَخْبو ، ويَخنُقُكَ بقايا الدخانِ! ، ، مِـمَّن يغوصُ في أعماقِكَ حينا ، متلبسًا بالوفاءِ ، متلفعًا بالصِّدقِ ، ثم يطفو على السَّطحِ كشوائبِ البحرِ الضارَّةِ ، فيصْدُقُكَ يومًا ، ويُخْلِفُكَ آخَرَ ؛ الصديق عند هؤلاء غيومٌ تطردها غيوم ، وحذاءٌ يُستبدل على حسب المزاج ، لا ، هُوَ نَمَطٌ مختلفٌ ؛ عَرَفَني بِـمَساوئي ومَـحَاسِني ، واختارَ أن يظلَّ رُكنًا شَديدا كما أكونُ لهُ! ، بعثت له يوما رسالةً أُبَشِّره بتحقُّقِ سعيٍ لي ، وكان الوقت هجيرا ، والهواء سعيرا ، فما راعني إلا طرقُهُ بابَ منزلي مُبارِكا مُهَلِّلا يقتسم معي فرحتي ، له اللهُ كادَ ينسى نفسه !
وآخَرُ ائتلفتْ روحُهُ بروحي ، وشَبَبْنَا سويَّــا عن طوقِ الطفولةِ والصِّبا ، رفيقُ سَفَرٍ في مرحلةِ الشَّبَابِ ، لصوتِهِ الحادِّ في أُذُني نُعُومَةٌ لا تُضاهى ، ولاسْمِهِ مَهْمَا تطاولَ الزَّمنُ رنينٌ في النفسِ ، وجَلْجَلَةٌ في الرُّوحِ ، لم تَـمُرَّ بخاطِرِهِ يوما غيرةُ الأقرانِ ، ولم يعرفْ لها طعمًا ولا لونــًا ، كان يُكَمِّلُني دومًا ، فهو مُسَكِّنٌ لعواصفي ، ومثبٍّتٌ لزلازلي ، وقورٌ ناضجٌ يبثُّ الرَّزانةَ والسُّكونَ حيثما حلَّ ! ، وسخيُّ كريم ؛ ينفِقُ وينسى ، يَبْذلُ ولا يذكرُ ( بعضُ المواقفِ نسيانُها أصعبُ من تذكُّرِها ) .
والأيامُ ما أقْساها تُنَبِّؤكَ دوما وهي خبيرةٌ- بأن لَّا تركنَ لجميعِ الوُجوهِ التي تعبُرُكَ ، وأن لَّا تمنحَهَا (كلَّها) أوسمةَ التَّفانيَ والفِدَاءِ ، فاحفظْ قلبَكَ الأبيضَ لخلِّكَ الأطيبِ ؛ فغباءٌ أن تَحسِبَ هؤلاء الذين يجدونَ الوقتَ بأن يثرثروا معكَ طيلةَ المساءِ ، هم أصدقاءَ وفاءٍ ، ورجالَ مواقفٍ ، وأنْ تتوقعَ أن لا ينقلبَ عليك ذاكَ الخلُّ الودودُ انقلابَ الأفعى ، ويتملصَ منك تملُّصَ الـحِرباءِ ، وأنه لن يُلقيَكَ يومًا مِنَ الدَّهْرِ وراءَ ظهرِهِ كما يُلقى المتاع ؛ وأنا لا زلتُ مقتنعًا بوجودِ رجالٍ من ذهبٍ ، لكنِّي أردِّدُ دومًا : احفظْ نفسَكَ من أن تسافرَ عواطفُكَ باتجاهِ مَن لا يستحقُّها ، أمسكها من الهرولة ( وراءَ كلِّ قيبحٍ وَجهُه حَسَنُ ) ، فالمشاعرُ الصادقةُ ديونٌ مُعلَّقةٌ على رقبةِ المحبوبِ ، قد تدفعُهَا من رصيدِ الكراهيةِ والبغضِ ذاتَ ليلةٍ كالحةٍ ، والمرخي لصفاءِ قَلْبِهِ العنانَ ، راكبٌ على ظهرِ أسدٍ هائجٍ ، لربَّما انقلبَ عليه في أيِّ لحظةٍ والْتَهَمَهُ.