أي: ومن هؤلاء المنافقين ( الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ) بالأقوال الردية، والعيب له ولدينه، ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) أي: لا يبالون بما يقولون من الأذية للنبي، ويقولون: إذا بلغه عنا بعض ذلك، جئنا نعتذر إليه، فيقبل منا، لأنه أذن، أي: يقبل كل ما يقال له، لا يميز بين صادق وكاذب، وقصدهم - قبحهم اللّه- فيما بينهم، أنهم غير مكترثين بذلك، ولا مهتمين به، لأنه إذا لم يبلغه فهذا مطلوبهم، وإن بلغه اكتفوا بمجرد الاعتذار الباطل.
فأساءوا كل الإساءة من أوجه كثيرة، أعظمها أذية نبيهم الذي جاء لهدايتهم، وإخراجهم من الشقاء والهلاك إلى الهدى والسعادة.
ومنها: عدم اهتمامهم أيضا بذلك، وهو قدر زائد على مجرد الأذية.
ومنها: قدحهم في عقل النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم إدراكه وتفريقه بين الصادق والكاذب، وهو أكمل الخلق عقلا وأتمهم إدراكا، وأثقبهم رأيا وبصيرة، ولهذا قال تعالى: ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) أي: يقبل من قال له خيرا وصدقا.
وأما إعراضه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالأعذار الكذب، فلسعة خلقه، وعدم اهتمامه بشأنهم ، وامتثاله لأمر اللّه في قوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ .
وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه، فقال عنه: ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الصادقين المصدقين، ويعلم الصادق من الكاذب، وإن كان كثيرا ما يعرض عن الذين يعرف كذبهم وعدم صدقهم، ( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) فإنهم به يهتدون، وبأخلاقه يقتدون.
وأما غير المؤمنين فإنهم لم يقبلوا هذه الرحمة بل ردوها، فخسروا دنياهم وآخرتهم، ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ) بالقول أو الفعل ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الدنيا والآخرة، ومن العذاب الأليم أنه يتحتم قتل مؤذيه وشاتمه.
( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) فيتبرأوا مما صدر منهم من الأذية وغيرها، فغايتهم أن ترضوا عليهم. ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه ورضا رسوله، فدل هذا على انتفاء إيمانهم حيث قدموا رضا غير اللّه ورسوله.
وهذا محادة للّه ومشاقة له، وقد توعد من حاده بقوله: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي : يكون في حد وشق مبعد عن اللّه ورسوله بأن تهاون بأوامر اللّه، وتجرأ على محارمه.
( فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) الذي لا خزي أشنع ولا أفظع منه، حيث فاتهم النعيم المقيم، وحصلوا على عذاب الجحيم عياذا باللّه من أحوالهم .
كانت هذه السورة الكريمة تسمى « الفاضحة » لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم، فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم، إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين: إحداهما: أن اللّه سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.
والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين، الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف.
وقال هنا ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي تخبرهم وتفضحهم وتبين أسرارهم حتى تكون علانية لعباده ويكونوا عبرة للمعتبرين
( قُلِ اسْتَهْزِئُوا ) أي استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية ( إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ) وقد وفَّى تعالى بوعده فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم وهتكت أستارهم
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم يقول طائفة منهم في غزوة تبوك « ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أرغب بطونا وأكذب ألسنا وأجبن عند اللقاء » ونحو ذلك
ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم جاءوا يعتذرون إليه ويقولون ( إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) أي نتكلم بكلام لا قصد لنا به ولا قصدنا الطعن والعيب
قال اللّه تعالى - مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك- ( قُلْ ) لهم ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) فإن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين لأن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه وتعظيم دينه ورسله والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة
ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة والرسول لا يزيدهم على قوله ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )
وقوله ( إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ) لتوبتهم واستغفارهم وندمهم ( نُعَذِّبْ طَائِفَةً ) منكم ( بِأَنَّهُمْ ) بسبب أنهم ( كَانُوا مُجْرِمِينَ ) مقيمين على كفرهم ونفاقهم
وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ويعاقبه أشد العقوبة
وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أو تنقصه أو استهزأ بالرسول أو تنقصه فإنه كافر باللّه العظيم وأن التوبة مقبولة من كل ذنب وإن كان عظيما
يقول تعالى: ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) لأنهم اشتركوا في النفاق، فاشتركوا في تولي بعضهم بعضا، وفي هذا قطع للمؤمنين من ولايتهم.
ثم ذكر وصف المنافقين العام، الذي لا يخرج منه صغير منهم ولا كبير، فقال: ( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ) وهو الكفر والفسوق والعصيان.
( نَسُوا اللَّهَ ) فلا يذكرونه إلا قليلا ( فَنَسِيَهُمْ ) من رحمته، فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة، بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار، خالدين فيها مخلدين.
( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) حصر الفسق فيهم، لأن فسقهم أعظم من فسق غيرهم، بدليل أن عذابهم أشد من عذاب غيرهم، وأن المؤمنين قد ابتلوا بهم، إذ كانوا بين أظهرهم، والاحتراز منهم شديد.
( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) جمع المنافقين والكفار في النار، واللعنة والخلود في ذلك، لاجتماعهم في الدنيا على الكفر، والمعاداة للّه ورسوله، والكفر بآياته.
يقول تعالى محذرا المنافقين أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم المكذبة. ( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ) أي: قرى قوم لوط.
فكلهم ( أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالحق الواضح الجلي، المبين لحقائق الأشياء، فكذبوا بها، فجرى عليهم ما قص اللّه علينا، فأنتم أعمالكم شبيهة بأعمالهم، استمتعتم بخلاقكم، أي: بنصيبكم من الدنيا فتناولتموه على وجه اللذة والشهوة معرضين عن المراد منه، واستعنتم به على معاصي اللّه، ولم تتعد همتكم وإرادتكم ما خولتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا، أي: وخضتم بالباطل والزور وجادلتم بالباطل لتدحضوا به الحق، فهذه أعمالهم وعلومهم، استمتاع بالخلاق وخوض بالباطل، فاستحقوا من العقوبة والإهلاك ما استحق من قبلهم ممن فعلوا كفعلهم، وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خولوا من الدنيا، فإنه على وجه الاستعانة به على طاعة اللّه، وأما علومهم فهي علوم الرسل، وهي الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية، والمجادلة بالحق لإدحاض الباطل.
قوله ( فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) إذ أوقع بهم من عقوبته ما أوقع. ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) حيث تجرأوا على معاصيه، وعصوا رسلهم، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
لما ذكر أن المنافقين بعضهم أولياء بعض ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ووصفهم بضد ما وصف به المنافقين، فقال: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ) أي: ذكورهم وإناثهم ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) في المحبة والموالاة، والانتماء والنصرة.
( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) وهو: اسم جامع، لكل ما عرف حسنه، من العقائد الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم، ( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وهو: كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة، والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة.
( وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي: لا يزالون ملازمين لطاعة اللّه ورسوله على الدوام.
( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي: قوي قاهر، ومع قوته فهو حكيم، يضع كل شيء موضعه اللائق به الذي يحمد على ما خلقه وأمر به.
ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال: ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) جامعة لكل نعيم وفرح، خالية من كل أذى وترح، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة، المروية للبساتين الأنيقة، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى.
( خَالِدِينَ فِيهَا ) لا يبغون عنها حِوَلا ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) قد زخرفت وحسنت وأعدت لعباد اللّه المتقين، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها.
فهذه المساكن الأنيقة، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق لها الأرواح، لأنها في جنات عدن، أي: إقامة لا يظعنون عنها، ولا يتحولون منها.
( وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ) يحله على أهل الجنة ( أَكْبَرُ ) مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون، والنهاية التي سعى نحوها المحبون، فرضا رب الأرض والسماوات، أكبر من نعيم الجنات.
( ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) حيث حصلوا على كل مطلوب، وانتفى عنهم كل محذور، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده.