۞حتى لا تكوني هاجرة للقرآن الكريم اقرئي هذا الورد اليسر
سورة المائدة 106:120
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ( 106 ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 ) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 108 ) .
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما.
( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي: من غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين.
( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي: سافرتم فيها ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) أي: فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد عليهما، بأن يحبسا ( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) التي يعظمونها.
( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ) أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا هذا ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك.
ويقولان: ( لا نَشْتَرِي بِهِ ) أي: بأيماننا ( ثَمَنًا ) بأن نكذب فيها، لأجل عرض من الدنيا. ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فلا نراعيه لأجل قربه منا ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ) بل نؤديها على ما سمعناها ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن كتمناها ( لَمِنَ الآثِمِينَ ) .
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا ) أي: الشاهدين ( اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا ( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) .
أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه. ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) أي: أنهما كذبا، وغيرا وخانا. ( وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير الحق.
قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: ( ذَلِكَ أَدْنَى ) أي: أقرب ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات. ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت.
( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي: الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.
وحاصل هذا، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين.
فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.
فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدعون.
وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة « تميم الداري » و « عدي بن بداء » المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم.
ويستدل بالآيات الكريمات على عدة أحكام:
منها: أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي.
ومنها: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا.
ومنها: أن شهادة الوصية لا بد فيها من اثنين عدلين.
ومنها: أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها.
ومنها: أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار - عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور.
ومنها: جواز السفر للتجارة.
ومنها: أن الشاهدين - إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى.
ومنها: أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما.
ومنها: تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط.
ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما.
ومنها: أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله: أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا.
ثم يدفع إليهما ما ادعياه، فتكون القرينة - مع أيمانهما- قائمة مقام البينة.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 109 ) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 110 ) .
يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال العظام، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ ) أي: ماذا أجابتكم به أممكم.
فـ ( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا ) وإنما العلم لك يا ربنا، فأنت أعلم منا. ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) أي: تعلم الأمور الغائبة والحاضرة.
( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ ) أي: اذكرها بقلبك ولسانك، وقم بواجبها شكرا لربك، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك.
( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) أي: إذ قويتك بالروح والوحي، الذي طهرك وزكاك، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل: إن المراد « بروح القدس » جبريل عليه السلام، وأن الله أعانه به وبملازمته له، وتثبيته في المواطن المشقة.
( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ) المراد بالتكليم هنا، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب، وهو الدعوة إلى الله.
ولعيسى عليه السلام من ذلك، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين، من التكليم في حال الكهولة، بالرسالة والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد، فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا الآيات
( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فالكتاب يشمل الكتب السابقة وخصوصا التوراة فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل - بعد موسى- بها ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه
والحكمة هي معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه وحسن الدعوة والتعليم ومراعاة ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي
( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) أي طيرا مصورا لا روح فيه فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ( وتبرئ الأكمه ) الذي لا بصر له ولا عين ( وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) فهذه آيات بيِّنَات ومعجزات باهرات يعجز عنها الأطباء وغيرهم أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) وهموا بعيسى أن يقتلوه وسعوا في ذلك فكفَّ الله أيديهم عنه وحفظه منهم وعصمه
فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ودعاه إلى شكرها والقيام بها فقام بها عليه السلام أتم القيام وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا ( 111- 120 ) إلى آخر الآيات .
أي: واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى الحواريين أي: ألهمتهم، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي، أو أوحيت إليهم على لسانك، أي: أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله، فأجابوا لذلك وانقادوا، وقالوا: ( آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون ) ، فجمعوا بين الإسلام الظاهر، والانقياد بالأعمال الصالحة، والإيمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف الإيمان.
والحواريون هم: الأنصار، كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ .
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أي: مائدة فيها طعام، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله، واستطاعته على ذلك. وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم.
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك، وعظهم عيسى عليه السلام فقال: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى، وأن ينقاد لأمر الله، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا.
فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى، وإنما لهم مقاصد صالحة، ولأجل الحاجة إلى ذلك فـ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وهذا دليل على أنهم محتاجون لها، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا بالإيمان حين نرى الآيات العيانية، فيكون الإيمان عين اليقين، كما كان قبل ذلك علم اليقين. كما سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فالعبد محتاج إلى زيادة العلم واليقين والإيمان كل وقت، ولهذا قال: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا أي: نعلم صدق ما جئت به، أنه حق وصدق، وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ فتكون مصلحة لمن بعدنا، نشهدها لك، فتقوم الحجة، ويحصل زيادة البرهان بذلك.
فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك، وعلم مقصودهم، أجابهم إلى طلبهم في ذلك، فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ أي: يكون وقت نزولها عيدا وموسما، يتذكر به هذه الآية العظيمة، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين.
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم. وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: اجعلها لنا رزقا، فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين، مصلحة الدين بأن تكون آية باقية، ومصلحة الدنيا، وهي أن تكون رزقا.
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما، فاستحق العذاب الأليم والعقاب الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها، وتوعدهم - إن كفروا- بهذا الوعيد، ولم يذكر أنه أنزلها، فيحتمل أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك، ويدل على ذلك، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى، ولا له وجود. ويحتمل أنها نزلت كما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه.
أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا وإنما ذلك كان متوارثا بينهم، ينقله الخلف عن السلف، فاكتفى الله بذلك عن ذكره في الإنجيل، ويدل على هذا المعنى قوله: وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ والله أعلم بحقيقة الحال.
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ، فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ عيسى ويقول: سُبْحَانَكَ عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك.
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فأنت أعلم بما صدر مني و إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: « لم أقل شيئا من ذلك » وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم. وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم، فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة.
الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.
قَالَ اللَّهُ مبينا لحال عباده يوم القيامة، ومَن الفائز منهم ومَن الهالك، ومَن الشقي ومَن السعيد، هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدْي القويم، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق، إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولهذا قال: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكاذبون بضدهم، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، وثمرة أعمالهم الفاسدة.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي، ولهذا قال: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شيء، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة بأمره.
تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان، والحمد لله رب العالمين.
___________________________________________________