النهي عن المسألة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن الصِّفات المذمومة التي حذَّر منها الشَّارِع: المَسْأَلة، والمقصود بالمسألة: أن يسأل الإنسان الناس أموالهم أو حاجاتهم من غير ضرورةٍ أو حاجةٍ مُلِحَّة؛ لما يتضمَّن السؤال من الذُّل لغير الله تعالى.
قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
قال ابن كثير في "تفسيره": "أراد: لا يُلِحُّونَ في المسألة، ولا يُكَلِّفُونَ الناسَ ما لا يحتاجون إليه؛ فإن مَنْ سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد أَلْحَفَ في المسألة"[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي يطوف على الناس، فتردُّه اللُّقمة واللُّقمتان، والتَّمرة والتَّمرتان))؛ فقالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغنيه، ولا يُفْطَنُ له، فيُتَصَدَّق عليه، ولا يسأل النَّاس شيئًا))[2].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرَ جهنَّم، فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِرَ))[3].
قال أبو حامد الغزالي: والسؤال في الأصل أنه حَرَامٌ، وإنما يُباح لضرورةٍ أو حاجةٍ مُلِحَّةٍ قريبةٍ من الضرورة؛ لما فيه من الشكوى من الله – تعالى - وفيه إظهارُ قصور نعمة الله على عبده، وهو عينُ الشكوى، وفيه إذلالُ السائل نفسه لغير الله تعالى، وكذلك أنه لا يَنْفَكُّ عن إيذاء المسؤول غالبًا؛ فقد يُعطيه حياءً أو رياءً، وهذا حرامٌ على الآخِذ"[4].
قال الشاعر:
مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ وَسَائِلُ اللهِ لا يَخِيبُ
وقال آخر:
لا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لا تُحْجَبُ
اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
وقد بيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ تَحِلُّ له المسألة؛ فعن قَبِيصَةَ - رضي الله عنه –: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٌ تحمَّل حَمَالَةً[5]؛ فَحَلَّتْ له المسألة حتى يصيبها ثم يُمسِك، ورجلٌ أصابته جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مالَهُ[6]؛ فَحَلَّتْ له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عَيْشٍ، ورجلٌ أصابته فَاقَةٌ[7]، حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فَاقَةٌ؛ فَحَلَّتْ له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عَيْشٍ، فما سِواهُنَّ من المسألة يا قَبِيصَةُ سُحْتٌ[8]، يأكلُه صاحبها سُحْتًا))[9].
وعن سَمُرَةَ بن جُنْدُب - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ المسألة كَدٌّ يَكُدُّ بها الرجل وجهَه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمرٍ لابُدَّ منه))[10].
قال الصَّنعانيُّ: "وأما سؤاله السُّلطان فإنه لا مَذَمَّةَ فيه؛ لأنه إنما يسأل ممَّا هو حقٌّ له في بيت المال، ولا مِنَّةَ للسُّلطان على السائل؛ لأنه وَكيلٌ، فهو كسؤال الإنسان وَكيلَه أن يعطيَه من حقِّه الذي لديه"[11].
وقال أيضًا: "والظاهر من الأحاديث: تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين في حديث قَبِيصَةَ، أو أن يكون السُّلطان"[12]. اهـ.
وقد بَيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْرَ الغِنَى الذي يَحْرُمُ به السُّؤال؛ فعن سهل بن الحَنْظَلِيَّةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ سأل وعنده ما يُغْنِيه؛ فإنما يستكثِر من نار جهنم)). قالوا: يا رسول الله، وما يُغْنِيه؟ قال: ((ما يغديه أو يعشيه))[13].
وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أن العمل وإن كان شاقًّا، والمال الذي يأتي منه قليلٌ - فهو خيرٌ للمرء من السُّؤال.
فعن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لأَنْ يأخُذَ أحدُكم حَبْلَهُ، فيأتي بحِزْمَةِ الحَطَب على ظهره، فيبيعها، فيَكْفِ الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطَوْهُ أو منعوه))[14].
وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ السَّائل من غير ضرورةٍ ولا حاجةٍ مُلِحَّةٍ، إنما يفتح على نفسه باب الفقر.
فعن أبي كَبْشَةَ الأَنْماري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثةٌ أُقْسِمُ عليهنَّ... ))، وذكر منها: ((ولا فتح عبدٌ بابَ مسألةٍ؛ إلا فتح الله عليه بابَ فقرٍ))[15].
بل إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ البَيْعَةَ من بعض أصحابه ألاَّ يسألوا الناس شيئًا؛ فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: ((ألا تُبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، وكنَّا حديثي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ؛ فقلنا: قد بايعناكَ يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تُبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، فقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ الله، ثم قال: ((ألا تبايعونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم؟))، قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناكَ يا رسول الله، فعلامَ نُبايِعُكَ؟ قال: ((على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا - وأَسَرَّ كلمةً خفيَّةً - ولا تسألوا الناس شيئًا)). فلقد رأيتُ بعض أولئك النَّفَر يَسْقُطُ سوطُ أحدهم، فما يسألُ أحدًا يناوله إيَّاه"[16].
وعن ثَوْبان - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ يَتَقَبَّل لي بواحدةً، أَتَقَبَّل له بالجنة))، قال: قلتُ: أنا يا رسول الله، قال: ((لا تسأل الناس شيئًا))، قال: فربما سقط سوطُ ثَوْبان وهو على بعيره، فما يسأل أحدًا أن يناوله، حتى ينزل إليه فيأخذه[17].
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم، فلا يسألون الناس شيئًا من متاع الدنيا.
فعن حَكيم بن حِزَام - رضي الله عنه - قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَنْ أَخَذَهُ بسَخاوَة نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، ومَنْ أَخَذَهُ بإشراف نَفْسٍ، لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))، قال حكيم: فقلتُ: يا رسول الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ، لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أُفارِقَ الدُّنيا، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يَقْبَلَ منه، ثم إن عمر - رضي الله عنه – دعاه ليعطيه، فأبى أن يَقْبَلَ منه شيئًا، فقال عمر: إني أُشْهِدُكم يا معشرَ المسلمين: أنِّي أعرض عليه حقَّه من هذا الفَيْء، فيأبى أن يأخذه؛ فلم يَرْزَأْ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفيَ - رضي الله عنه
[18].
وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ - رضي الله عنه -: أنَّ أُناسًا سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ((ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّه الله، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومَنْ يَتَصَبَّر يُصَبِّره الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصَّبر))
[19].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________
[1] تفسير ابن كثير (1/324).
[2] صحيح البخاري (1/457) برقم (1476)، وصحيح مسلم (2/719) برقم (1039).
[3] صحيح مسلم (2/720) برقم (1041).
[4] إحياء علوم الدين (4/223) باختصار وتصرف.
[5] يعني دينًا أو دية عن غيره للإصلاح.
[6] يعني حريق أو هلاك زرع أو غير ذلك.
[7] يعني فقر وضرورة بعد غنى.
[8] السُّحْت هو الحرام.
[9] صحيح مسلم (2/722) برقم (1044).
[10] سنن الترمذي (2/65) برقم (681) وقال: حديث حسن صحيح.
[11] سبل السلام (1/632).
[12] سبل السلام (1/636).
[13] مسند الإمام أحمد (4/180).
[14] صحيح البخاري (1/456) برقم (1471).
[15] سنن الترمذي (4/563) برقم (2325).
[16] صحيح مسلم (2/721) برقم (1043).
[17] مسند الإمام أحمد (5/281).
[18] صحيح البخاري (1/456) برقم (1472)، وصحيح مسلم (1/717) رقم (1035).
[19] صحيح البخاري (1/455)، وصحيح مسلم (1/729) برقم (1053).