لطائف قرآنية
إنّ في القرآن الكريم كنوزاً ضخمة من الإشارات واللفتات، واللطائف والإيحاءات، والمعاني والحقائق والدلالات..
ولقد صدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه الجامع للقرآن حيث قال:
(... فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم... من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه... من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
وإن تدبر آيات القرآن، والاستمتاع بلفتاته ولطائفه، نعمة غامرة من الله المنعم الكريم، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة تزيد الإيمان وتقويه، وتبارك العمر وتزكيه.
وإني ـ بإذن الله تعالى وتوفيقه ـ أضع بين أيديكم سلسلة (لطائف قرآنية)
وهي عبارة عن نظرات في أسلوب القرآن المعجز، ووقفات أمام مفرداته وتراكيبه، وإشارات ولطائف لمقاصده ودلالاته، مبتدئاً باللطيفة الأولى وهي:
الموت: ذلك الفاعل المؤخر دائماً
يلاحظ القارئ للقرآن، والناظر في آياته، أن الآيات التي تتحدث عن "الموت" تجعل الموت فاعلاً مؤخراً دائماً، والميتَ مفعولاً به مقدماً دائماً
من تلك الآيات:
قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة : 133]
قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة : 180]
وقوله عز وجل: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام : 61]
وقوله جل ذكره: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون : 10]
وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء : 78]
ولا ننسى قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة : 8]
ومن خلال تدبر هذه الآيات وأمثالها نلاحظ بعض اللطائف وهي:
1- الموت في الآيات كلّها جاء فاعلاً لما سبقه من أفعال.
2- جاء الفاعل "الموت" في الآيات كلها مؤخراً عن المفعول به.
3- المفعول به في الآيات كلها هو الإنسان الذي مات.
ولدى تدبر هذه الملاحظة، ومحاولة استخراج الحكم منها يتبين لنا الآتي:
- الموت هو الذي يأتي الإنسان الذي انتهى أجله، ولذلك ناسب أن يكون هو الفاعل في موضوع الإتيان والمجيء.
- تأخير الفاعل "الموت" وتقديم المفعول به "الميت" عليه دائماً، لكراهية الإنسان للموت، وعدم محبة قدومه.
- وهذا يقودنا إلى ملاحظة (حكمة نفسية) من تأخير "الموت"، وهي أن الإنسان يرغب في أن يتأخر الموت، بل يتمنى أن لا يأتيه أبداً، ليستمتع بحياته. وإذا كان لا بد آتياً.. فليتأخر!
ولا ندرك هذه الحكمة النفسية من تأخير الفاعل إلا بالاستعانة بمقررات (علم النفس التحليلي) الصحيحة المتزنة والتي تقرر أن الموت مؤخر عن شعور الإنسان وتفكيره.
وقد راعى السياق هذه الشعور، وتلك الرغبة النفسية البشرية، فأخره في الجملة القرآنية.
وإن الموت هو الذي يأتي صاحبه، وليس صاحبه هو الذي يسير إليه، وقد لاحظ السياق هذا المعنى،
فأسند الحضور والإتيان إليه، وجاء "الموت" فاعلاً في الجملة القرآنية. والله أعلم.
منقووول