إن حياة المؤمنين لا تستقيم بدونها؛ فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة الأعين، وأعظم المنازل التي يتنافس عليها المتنافسون .. إنها محبة الله عزَّ وجلَّ لعبــــاده ..
والله جلَّ جلاله هو الباديء بمحبة عبـــــاده .. كما في قوله تعالى {.. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ..}[المائدة: 54] .. فأنت لن تُحب ربَّك إلا إذا ابتدأ بمحبته لك سبحـــانه وتعالى.
كان أبو يزيد البسطامي يقول "غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه؛ فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته سبقت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولاً حتى طلبته" [حلية الأولياء (4:261)]
وقال ذا النون: وصِفَ لي رجل (أي: رجل عابد) فقصدته فأقمت على بابه أربعين يوماً، فلما كان بعد ذلك رأيته، فلما رآني هرب مني، فقلت له: سألتك بمعبودك إلا وقفت علي وقفة. فقلت: سألتك بالله بم عرفت الله؟، وبأي شيء تعرف إليك حتى عرفته؟. فقال لي:نعم، رأيت لي حبيباً إذا قربت منه قربني وأدناني، وإذا بَعدُت صوب بي وناداني، وإذا قمت بالفترة رغَّبني ومنَّاني، وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني، وإذا عملت بالمعصية صبر علي وتأناني،
فهل رأيت حبيبـــًا مثل هذا؟ ..
انصرف ولا تشغلني، ثم ولى وهو يقول:
حسب المحبين في الدنيا بأن لهم ... من ربهم سبباً يدني إلى سبب
قوم جسومهم في الأرض سارية ... نعم وأرواحهم تختال في الحجب
لهفي علي خلوة منه تسددني ... إذا تضرعت بالإشفاق والرغب
يـــــــا ربِّ يــا ربِّ أنت الله معتمدي ... متى أراك جهاراً غير محتجب.
[حلية الأولياء (4:220)]
تلك كانت قلوب المُحبين، المشتـــاقين لربِّ العالمين ...
وما أحوجنا لأن نزرع في القلوب محبة علام الغيـــــوب ..
ومن أعظم الأسبــــاب التي تغرس محبة الله عزَّ وجلَّ في قلبك، أن تتعرف على مظاهر حب الله عزَّ وجلَّ لعباده ومدى منته وجوده وكرمه عليهم، على الرغم من معصيتهم له سبحـــــانه ..
ومن مظاهر حب الله عزَّ وجلَّ لعبــــاده ..
أولاً: اصطفائه لك وجعلك من عباده المسلمين الموحدين .. وما أعظمها من نعمة ..
قال أبو الأشهب السائح: بينا أنا في الطواف إذا بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول: يا وحشتي بعد الإنس، ويا ذلي بعد العز، ويا فقري بعد الغنى.
فقلت لها: ما لك؟ أذهب لك مال أو أصبت بمصيبة؟، قالت: لا، ولكن كان لي قلب ففقدته، قلت: هذه مصيبتك؟!، قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب؟!!، فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطل على من سمع الكلام الطواف. فقالت: يا شيخ، البيت بيتك أم بيته؟، قلت: بل بيته. قالت: فالحرم حرمك أم حرمه؟، فقلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزارنا إليه.
ثم قالت: بحبك لي إلا رددت عليَّ قلبي. قال: فقلت: من أين تعلمين أنه يحبك؟!،
فقالت: جيَّش من أجلي الجيوش وأنفق الأموال وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد، وعرَّفني نفسه بعد جهلي إيـاه، فهل هذا إلا لعناية ؟!!. [صفة الصفوة (2:518)]
فتأمل عناية الله بك وهدايته لك، بينما الكثيرون يتخبطون في ظلمات الضلال والبُعد عن الله سبحانه وتعالى ..
وكم من ذنوبٍ عصمك منها ووقـــــاك، وأبعدك عنها وهداك؟!
فاللهم بحبك لنــــا إلا رددت إلينـــا قلوبنـــــا سليمة طاهرة .. اللهم ردنا إليك مردًا جميلاً،،
ثانيًا: يضاعف لك الأجر على اليسير من الأعمال .. فكم في الإسلام من أعمال يسيرة، وأجورهـــا عند الله عزَّ وجلَّ كبيـــرة .. ومن كرم الله سبحانه وتعالى أنه يُضاعف الحسنة بعشرة أمثالها .. {..وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]..
حتى إنك تُثاب لتركك السيئات التي قد هممت بها .. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم"إن الله كتب الحسنات والسيئات؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن همَّ بعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّبسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بعملها كتبها الله له سيئة واحدة"[متفق عليه]
ثالثًا: بحبه لك، يسَّر لك دخول الجنة بأبسط الأعمال ..
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"[رواه أبو داوود وصححه الألباني] ..
ومن واظب على الصيام حتى يُختم له به، أدخله الجنة .. قال رسول الله صل الله عليه وسلم "..من ختم له بصيام يوم يريد به وجه الله عزَّ وجلَّ، أدخله الله الجنة"[رواه الأصبهاني وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (985)]
ويفتح لك أبواب الجنة بذكره عقب الوضوء .. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله (وفي رواية: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"[متفق عليه]
وترديدك للأذان من قلبك .. عن عمر قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم"إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه، دخل الجنة" [رواه مسلم]
ويُعِد لك منزلاً في الجنة، كلما ذهبت إلى المسجد .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم"من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح"[متفق عليه]
وحتى إماطتك للأذى من الطريق، تُدخلك الجنة ..عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم"مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فُأدخل الجنة" [متفق عليه]
وتجب لك الجنة، بمجرد رضـــاك عن ربِّك سبحانه وتعالى .. عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال "من قال: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة"[رواه أبو داوود وصححه الألباني]
أرأيت كرم الجليل جلَّ جلاله؟ وبعد كل هذا الكرم والجود والإنعام،
أمازلت لا تحبه ولا تسعى في طاعته؟!!