شرح اسم الله الخالق المصوّر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للهِ تِسْعَةٌ وِتسْعُونَ اسْماً مِئةٌ إلاَّ وَاحِداً، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وتْرٌ يُحبُّ الْوتْرَ))[1]، وفي رواية: ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ))[2].
وقد ورد اسم الله الخالق المصوِّر في آيات كثيرة، قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الحشر: 24]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 6].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 7-8].
قال بعضهم: المصوِّر هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة، وهيئات متباينة من الطول والقصر، والحسن والقبح، والذكورة والأنوثة، كل واحد بصورته الخاصة، قال تعالى: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين:
أولاً: أن الله تعالى هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 3]، فكل ما سوى الله مخلوق محدَث، وكل المخلوقات سبقها العدم، قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾ [الإنسان: 1].
ثانياً: أن الله تعالى لم يزل خالقاً كيف شاء ومتى شاء ولا يزال، قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [النور: 45]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، وقال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16].
ثالثاً: أن الله تعالى ذكره خالق كل شيء، قال تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [غافر: 62].
رابعاً: خلق الله عظيم، فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أفضل منه، قال سبحانه: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11].
وفي هذا تحدٍّ لجميع الخلق من الجن والإنس وغيرهم.
وقد أثبت الله عجزهم عن خلق ضعيف حقير: كالذباب، ولو اجتمعوا على ذلك، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].
خامساً: أن الله حرَّم على عباده أن يصوِّروا الصور ذوات الأرواح، لما فيها من مضاهاة لخلق الله، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟! فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَليَخْلُقُوا ذَرَّةً))[3].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ اللِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ المْصُوِّرُونَ))[4]، وفي رواية: ((يُقَالُ لَهُم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم))[5]، وفي هذا دليل على تعذيب المصوِّر، وهو أن يكلَّف نفخ الروح في الصورة التي صوَّرها، وهو لا يقدر على ذلك، فيستمر تعذيبه.
سادساً: خلق الله العظيم، فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهما أعظم من خلق الإنسان، قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57].
ومن عظمة خلق الله: أن الكرسي وهو موضع القدمين – كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- وسع السماوات والأرض جميعاً، والعرش أعظم من ذلك، والله تعالى مستوٍ على عرشه، وهو أعظم وأكبر من كل شيء.
سابعاً: أن الله تعالى ما خلق هذا الخلق عبثاً، وإنما لغاية عظيمة، قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 16-18].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق: أي بالعدل والقسط: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لهواً، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27][6].
ثم بيَّن سبحانه الحكمة في الخلق فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56-58][7].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________________________
[1] ص 1231، برقم 6410، ومسلم ص 1075، برقم 2677.
[2] صحيح البخاري ص1409، برقم 7392.
[3] صحيح البخاري ص 1155، برقم 5953، وصحيح مسلم ص 876، برقم 2111.
[4] صحيح البخاري ص 1155، برقم 5950، وصحيح مسلم ص875، برقم 2109.
[5] صحيح البخاري ص 1155، برقم 5951، وصحيح مسلم ص 875، برقم 2108.
[6] تفسير ابن كثير (9/395).
[7] النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (169- 174).