أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك (1)


الزَّمَن يَدُور، والحياة تسير، والزَّاد مع السَّالكين قليل، والسَّفر إلى الله تعالى طويل، والحساب أمام الله - عزَّ وجلَّ - شديد، وما من يومٍ ينشقُّ فجْرُه إلاَّ ويُنادي مُنادٍ: "يا بن آدم، أنا خلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمْنِي؛ فإنِّي إلى يوم القيامة لا أعود".

عامٌ مضى وعام أتى، عامٌ أدبرَ وعامٌ أقبل، وبينهما يقف العبد مع نفْسِه يُحاسبها، ومع أعماله يُراجعها، ومع أولوِيَّاته يرتِّبها، ومع حركاته وسكناته ينظِّمها، يتخلَّص مِمَّا علق به من ذنوبٍ وسيِّئات، ويسترجع ما فاته من درجات وحسنات، ويستزيد مما أفاء الله عليه من نِعَمٍ ورحمات؛ لينجو يوم الْمَمات من الشَّدائد والكربات، كالتَّاجر النَّاجح في الدُّنيا لا ينام في أكثر الأيام، وإنَّما يَقْضي وقته بين السَّفر والْمُقام، بين السَّهر والزحام، بين التَّعب والآلام، حتَّى إذا كان آخر العام جرَّد دفاتره، وراجع فواتيره، وأنْهَى حساباته؛ ليتجنَّب خسارته، ويزيد من ربْحِه، وهو ربحٌ دنيوي قد يكون أو لا يكون، وإذا كان قد ينتفع به أو لا ينتفع، وإذا انتفع به قد يدوم أو لا يدوم، وإذا دام فإنَّ صاحبه نفسه لا يدوم، كيف؟

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 77 - 78]، فمَن لَم يُحاسب نفْسَه دامت يوم القيامة حسراته، وطالت في عرَصات الآخرة وقفاتُه، وزادت على أبواب العذاب أنَّاته ونزعاتُه، وقادتْه إلى الْخِزي والْمَقت سيِّئاتُه ونزواته.

يقول الفاروق - رضِي الله عنه -: حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا، وتَهيَّؤوا للعرض الأكبر على الله.

بين عام وعام تخفت الآلام وتتزايد الأحلام:
مضى عامٌ بِحُلوه ومُرِّه، بِخَيره وشرِّه، بحسناته وسيِّئاته، بأفراحه وأتْرَاحه، ترادفَت السَّاعات، وتسارعت اللَّحظات، وتغيَّرت الحالات... كيف؟





الصِّحة تَقْوى وتَضْعف، والنُّجوم تَخْتفي وتظهر، والأيام تُقْبِل وتدْبِر، وربُّك يَخْلق ما يشاء ويَخْتار، وكلُّ شيء عنده بِمِقدار، والعبد المؤمن بين مَخافتَيْن: أجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله قاضٍ فيه، وأجَلٍ قد بقي لا يدري ما الله صانعٌ فيه، فلْيَأخُذ العبدُ من نفْسه لنفْسه، ومن صحَّتِه لسقمه، ومن حياته لِمَوته، فما بعد الموت من مُستعْتب، وما بعد الدُّنيا من دار إلاَّ الجنة أو النار.

يقول ابن كثير:
تَمُرُّ بِنَا الأَيَّامُ تَتْرَى وَإِنَّمَا عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك
تُسَاقُ إِلَى الآجَالِ وَالعَيْنُ تَنْظُرُ عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

فَلاَ عَائِدٌ ذَاكَ الشَّبَابُ الَّذِي مَضَى عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك
وَلاَ زَائِلٌ هَذَا الْمَشِيبُ الْمُكَدِّرُ عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك




قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "ما مضى من الدُّنيا أحلام، وما بقي منها أمانِي، والوقت ضائعٌ بينهما"[1] ، وروى البخاريُّ في "صحيحه" من حديث عليٍّ - رضِي الله عنه - أنَّه قال: ارتَحلَت الدُّنيا مدْبِرة، وارتَحلَت الآخرة مقْبِلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا مِن أبناء الدنيا، فاليوم عمَلٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل!

وقْتُك هو ثروتك، هو رأس مالك، هو حياتُك، وصحَّتك هي تاجك، لذلك قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعمتان مَغبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّة والفَراغ))؛ "صحيح البخاري".

قال عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنه -: ما ندِمتُ على شيءٍ ندَمِي على يومٍ غربَتْ شمسه؛ نقص فيه أجَلِي، ولَم يزدَدْ فيه عملي.

وقال الشافعي - رحمه الله -: "صحِبْتُ الصُّوفية، فما انتفعت منهم إلاَّ بكلمتين؛ سمعتهم يقولون: الوقت سيفٌ فإن قطعتَه وإلاَّ قطعَك، ونفسك إن لَم تشْغَلها بالحق شغلتْك بالباطل"[2] .

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتَّى يُسأَل: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتَسَبه؟ وفيمَ أنفَقَه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟))؛ قال الترمذي: حسن صحيح.

اغتَنِم قبل أن تغتنم، وحاسِب قبل أن تُحاسَب:
((اغتَنِم خَمسًا قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحَّتك قبل سقمِك، وفراغك قبل شغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))[3] ، وروي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد، يُصَرِّفه حيث يشاء))، ثُم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ، صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك))؛ صحيح.

يقول الله تعالى: ﴿ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ﴾ [النور: 37] لماذا؟ ترهيب:﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، ثم ترغيب: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور: 37]؛ لذلك كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثِر مِن قول: ((يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّت قلبِي على دينك))؛ "صحيح مسلم".

وقال الحسَن البصري - رحمه الله -: "يا ابن آدم، إنَّما أنتَ أيَّام؛ فإذا ذهَبَ يومُك فقد ذهب بعضُك"، وقال: أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتِهم أشدَّ منكم على دراهِمِكم ودنانيركم.

لذلك؛ وفي الصَّحيحين في قصَّة الكبش الذي يُذبَح بين الجنَّة والنَّار، ويقال: يا أهل الْجنَّة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت، ثُم قرأ النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39]، وأشار بيده إلى الدنيا؛ "صحيح مسلم".

قال محمد بن علي الترمذيُّ: اجعل مراقبتك لِمَن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لِمَن لا تنقطع نِعَمُه عنك، واجعل طاعتَك لِمَن لا تَسْتغني عنه، واجعل خُضوعك لِمَن لا تَخْرج عن مُلكه وسلطانه!

وعن ميمونِ بن مِهْران قال: لا يكون العبْدُ من الْمُتَّقين حتَّى يُحاسِب نفسَه أشدَّ من محاسبة شريكه، والشريكان يتحاسَبان بعد العمل.

وتروي أمُّ المؤمنين عائشة أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - قال لَها عند الموت: "ما أحدٌ أحب إلَيَّ من عمر"، ثُم قال لَها: "كيف قلتُ؟"، فأعادتْ عليه ما قال، فقال: "لا أحد أعز عليَّ من عمر"؛ نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبَّر لَها، وأبدلَها بكلمةٍ غيرها.

السقوط والانْحِدار:
وقيل: مَن كان يومُه مثْلَ أمْسِه فهو مغبون، ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو ملعون، كان يتجنَّب المكروهات والمُحرَّمات، فاقتصر على تجنُّب المُحرَّمات، وكان يصلِّي الفرض والنَّفل فأصبح لا يصلِّي إلا الفرض، كان يُخْرِج الزَّكاة مع الصدقة، فبات لا يُخرج إلا الزَّكاة، وربَّما يقصر فيها، كان يصلِّي حاضرًا فأصبح يصلِّي قضاء، بدل أن يعلو انْحَدر، وبدل أن يصعد نزَل، وبدل أن يرتقي تسفَّل، وبالتَّالي لُعِن، ومَن لُعِن طُرِد، ومن طرد خَسِر، ومن خسر فقدَ الدنيا والآخرة، مثل مَن قال الله فيهم: ﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: 42] ﴿ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ [الأحزاب: 61].

اختارهم الله لأمرٍ عظيم، وخلقهم في أحسن تقويم، ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [البلد: 4]، لكنَّه اختار لنفسه سبيلاً آخر، إنَّ مثل هؤلاء ضيَّعوا أوقاتَهم، وعمَّروا دُنياهم، وخرَّبوا أُخْراهم، فرُدُّوا إلى السُّقوط والانحدار! ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾ [البلد: 5].


يتبع الجزء الثاني.


اللهم امنَحْنا التَّقْوى، وجَمِّلنا بالعلم وزيِّنَّا بالْحِلم، اللهم استعمِلنا في طاعتك، ولا تُذِلَّنا بِمَعصيتك، اللهم ثبِّت قلوبنا على دينك، وصرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم اشرح صدورَنا، وأحسِن ختامَنا، وجَمِّل خلاصنا، اللهم اجعلنا مع النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحين وحَسُن أولئك رفيقًا، اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا، ولا مبلغ علمِنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالَمِين.

_______________________________
[1] "الفوائد" ص 48.

[2] "مدارج السَّالكين" (3/ 97).
[3] (صحيح) انظر حديث رقم: 1077 في "صحيح الجامع".


يتبع




إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#2

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

عفوًا!.. عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك (2)



اليوم المفقود لا يعود: إذا فاتك قطارٌ، قد تستقِلُّ آخر، وإذا خَسِرْتَ صفقةً، قد تَرْبح غيرها، وإذا فقدْتَ ولدك قد يعوِّضك الله بأخيه، أمَّا إذا ذهب يوْمُك فمَنْ يأتيك به؟ ومن يردُّه إليك؟ ومن يعيده إليك أو يعيدكَ إليه؟! ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]، بل لا تتأخر ساعة ولا تتقدَّم؛ ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

الناس يلهون، والقدَرُ معهم جادٌّ؛ ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 11]، وينسون وكلُّ ذرَّة من أعمالهم مَحْسوبة؛ ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، ويغفلون وهم مَبْعوثون ليومِ وضْعِ موازين القِسْط؛ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].

ويَعْصون مع أنهم أشتاتًا سيَصْدرون، وما ارتكبوا من أعمال سيرون؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 - 7]، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].


رقائق: فاحذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة، فقد كان السَّلَف يلْتَقون ويفْتَرقون على ثلاث كلماتٍ: مَن عمل لآخرته كفاه الله - عزَّ وجلَّ - دنياه، ومَن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومَن أصلح سريرتَه أصلح الله علانيته.

يَحْكي محمَّدُ بن الْمُنكَدِر عن عِقابِ تَميمٍ لنفسه إذْ نام عنْ صلاة اللَّيل مرَّة، فيقول: "نام تَميمٌ الدَّاريُّ ليلةً لَم يَقُم فيها يتهجِّد حتِّى أذان الصُّبح، فقام سنةً كاملة لم ينَمْ فيها عقوبةً للذي صنع"؛ عام كامل بليلةٍ واحدة!

وقال أحد السَّلف: ما زِلْتُ أسوق نفسي إلى الله، وهي تبكي، حتَّى سُقْتُها وهي تضحك.

وقال عون بن عبدالله: قلب التائب بِمَنْزلة الزجاجة، يؤثِّر فيها جميعُ ما أصابَها.

فالموعظة إلى قُلُوبهم سريعة، وهم إلى الرِّقة أقرب، فدَاوُوا القلوب بالتوبة؛ فلَرُبَّ تائبٍ دعَتْه توبةٌ إلى الجنة حتَّى أوفدَتْه عليها، وجالِسُوا التوَّابين؛ فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب؛ قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

قال إبراهيم التميميُّ: مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثِمارها، وأشرب من أنهارها، وأُعانق أبكارها، ثم مثلتُها في النار آكل من زَقَّومها، وأشرب من صديدها، وأُعالج سلاسِلَها وأغلالَها، ثم قلتُ لنفسي: يا نفسي، أي شيءٍ تُريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدُّنيا فأعملَ صالِحًا، قال: فأنتِ في الدُّنيا، فاعملي.

إنَّها طريقةٌ اتَّخذَها الرجل في إيقاظ نفسه، وإن شئت فقُل: في إحياء ضميره! لقد خيَّل المتوقَّع واقعًا، والغائب حاضرًا، ثم قال لنفسه بعد أن عرض عليها بصورتين: تخيَّري واعملي... من كتاب "الإيمان والحياة".

عن حنظلة الأسيديِّ وكان من كُتَّاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه مَرَّ بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لكَ يا حنظلة؟ قال: نافَقَ حنظلةُ يا أبا بكر، نكون عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يذكِّرنا بالنَّار والجنة كأنَّا رأْيَ عيْن، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضَّيعة نسينا كثيرًا، قال: فو الله إنَّا لَكذلك، انطلِقْ بنا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فانطلَقْنا، فلمَّا رآه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما لك يا حنظلة؟)) قال: نافق حنظلةُ يا رسول الله؛ نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنَّة كأنَّا رَأْيَ عين، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواجَ والضَّيعة، ونسينا كثيرًا، قال: فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو تَدُومون على الحالِ الذي تقومون بِها من عندي لصافحَتْكم الملائكةُ في مَجالسكم وفي طرُقِكم وعلى فرُشِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وَساعة وساعة))؛ صحيح الترمذي، والساعة هنا لا تُصْرف في معصيةٍ، وإنَّما أيضًا في طاعة.

قابل الفُضَيلُ بن عياض رجُلاً بلغ من الكِبَر عِتيًّا، فسأله: كم عمرك؟ قال الرَّجل: سِتُّون عامًا، قال الفضيل: توشك أن تَصِل إلى الله، قال الرجل: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفْتَ معناها؟ قال: نعم، إنِّي لله عبْد، وإني إليه راجع، قال الفضيل: إذا عرفْتَ أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، عرفتَ أنك مسؤول، وإذا عرفت أنك مسؤول فأَعِدَّ للسُّؤال جوابًا، قال الرجل: وما الْحِيلة يرحمك الله؟ قال الفضيل: يسيرة؛ أن تَتَّقِي الله فيما بقي، يَغفِرْ الله لك ما قد مَضى.

أيُّها الباكي على أحبابِه الأموات، ابْكِ على نفسك قبل الفوات، وحاسِبْ نفْسَك قبل الممات، تَخلَّصْ من نَزواتِ الدُّنيا والشهوات، وتأهَّب لِنُزول البلايا والآفات، وتذكَّر يوم يُقال عنك: إنَّه قد مات، وتذكَّر أن الذي أتى الماضين قد أتاك، يوم تنطق جوارِحُك ويسكت فاك؛ ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 6]، ولو سألْتَهم: لِمَ شهِدْتُم علينا؟ قالوا: الأمر عند الذي أماتَك وأَحْياك، ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 21].

جاء رجلٌ إلى أُمِّ المؤمنين عائشة، فقال: إنَّ بِي داءً، فهل عندك دواء؟ فقالت: ما الدَّاء؟ قال: القَسوة، قالت: "بئس الدَّاء داؤك، يا هذا، عُدِ الْمَرضى، واشْهَد الجنائز، وتوقَّع الموت".

وقال ابْنُ عونٍ الْمِصريُّ: أما يَسْتحِي أحدُكم أن تكون دابَّتُه التي يركب، وثوْبُه الذي يَلْبس، أكثرَ ذِكْرًا لله منه؟ وكان لسعيد بن جبير ديكٌ كان يقوم اللَّيل بصِياحه، قال: فلَم يَصِحْ ليلةً من الليالي حتَّى أصبح، فلم يُصَلِّ سعيد تلك الليلة، فشقَّ عليه، فقال: ما له، قطَع الله صوتَه؟ قال: فما سُمِع له صوتٌ بعدها، فقالت أمُّه: يا بُنَيَّ لا تدْعُ على شيءٍ بعدها.

اقترب الحساب، ومع ذلك أعرضَت النُّفوس، ولعبت العقول ولَهَتِ القلوب، كيف؟ ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مَنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.. ﴾ [الأنبياء: 1 - 3].


عدِّل المسار، وإلاَّ الانْهيار: إذًا عدِّل مسارك وأنت في الطريق إلى ربِّك، إنَّه طريق وعر وطويل، تتخلَّله أشواكٌ، وتَظْهر عليه شدائد ونكبات، وتتناوله مكارِهُ وعقبات، ((حُفَّت الجنة بالْمَكاره، وحُفَّت النار بالشَّهوات))؛ صحيح الترمذي؛ لذلك قالت ابنة الربيع بن خُثَيم: يا أبتاه، ما لي أرى النَّاس ينامون، ولا تنام؟ قال: إنَّ جهنَّم لا تدَعُني أنام.

عدِّل مسارَك قبل أن يأتيك يومٌ لا مردَّ له من الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47].

عدِّل مسارك بالاستقامة على طريق الله قبل أن تتفرَّق بك السُّبل: ﴿ وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

عدِّل مسارك بالتَّقوى تؤسِّسْ بنيانَك، وإلاَّ كان السُّقوط والانْهيار؛ ﴿ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109].

يقول يَحْيَى بن معاذ: إِلَهي، كيف أفرح وقد عصيْتُك؟ وكيف لا أفرح وقد عرفْتُك؟ وكيف أدعوك وأنا خاطئ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟


اللهم امْنَحنا التَّقوى، وجَمِّلنا بالعلم، وزينَّا بالْحِلم، اللهم استعمِلْنا في طاعتك، ولا تُذِلَّنا بمعصيتك، اللهم ثبِّت قلوبنا على دينك، وصرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم اشرح صدورنا، وأحسِن ختامنا وجَمِّل خلاصنا، اللهم اجعلنا مع النبيين والصِّدِّيقين، والشُّهداء والصالِحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا ولا مبلغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم،

والحمد لله ربِّ العالمين.


إظهار التوقيع
توقيع : اماني 2011
#3

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

مشكوره حبيبتى
#4

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

جزاك الله خير
شكرا ياقمر

إظهار التوقيع
توقيع : dont worry
#5

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

مشكوووووره ياعسل
#6

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

إظهار التوقيع
توقيع : نواعم
#7

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

جزاكى الله خيرا
#8

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

ينقل للقسم المناسب
الحملات الدعوية

#9

افتراضي رد: عفوًا... عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك

جزاكى الله خيرا حبيبتى
إظهار التوقيع
توقيع : قوت القلوب 2


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
قبعات بناتية من الكروشيه المهاجرة الخياطة والكروشية والتريكو


الساعة الآن 05:27 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل