الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمَّا بعدُ :
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة طـٰه : ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)﴾ هـٰذه الآيات المباركات من هـٰذه السورة العظيمة - سورة طـٰه - فيها بيان أنَّ القرآن الكريم كتاب السَّعادة ، فمن أرادها لنفسه فعليه بموردها العذب ومعِينها المبارك ومنبعها الّذي لا ينضب؛ كتاب الله عزَّ وجلَّ ، كما أنَّ هـٰذا المعنى قُرِّر في هـٰذا الموضع من سورة طـٰه فإنَّ السُّورة صُدِّرت به ، حيث بدأ الله عزَّ وجلَّ هـٰذه السُّورة الكريمة بقوله: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)﴾ أي إنَّما أنزلناه عليك لتسعد، فهو كتاب سعادة ؛ فمن كان من أهل القرآن فهو من أهل السَّعادة ، ومن أعرض عن القرآن كان من أهل الشَّقاء .
وقد ذُكر في بعض كُتب التَّفسير أنّ المشركين قالوا : إنَّ هـٰذا القرآن أُنزل على محمَّدٍ ليشقى به هو وأصحابه - ليكون سببًا في شقائهم وبؤسهم وتعاستهم - فأنزل الله عزَّ وجلَّ قوله : ﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ أي: إنَّما أنزلنا عليك هـٰذا الكتاب العظيم والذِّكر الحكيم لتسعد ، وقوله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ نفيٌ للضَّلال ونفيٌ للشَّقاء، وفي هـٰذا النَّفي إثباتٌ لضدِّ المنْفي، فنفيُ الضَّلال فيه ثبوت الهداية ، ونفيُ الشَّقاء فيه ثبوت السَّعادة ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ باتِّباع هدى الله عزَّ وجلَّ الهداية والسَّعادة.
والهداية والسَّعادة أمران متلازمان وقرينان لا ينفكَّان ؛ فمن كان مهتديًا فهو سعيد ، ومن كان ضالًّا فهو شقي، والشَّقاء قرين الضَّلال الذي لا ينفكُّ عنه ، فمتى وُجِدَ الضَّلال وُجِدَ الشَّقاء، ومتى وُجدت الهداية وُجدت السَّعادة .
وسبحان الله !! هـٰذا أمر يُدركه النَّاس ، من كان في بُعدٍ عن الله وطاعته والاستقامة على شرعه ثم اهتدى يُحسّ في قلبه لذَّةً كانت مفتقدة ، وحلاوةً كانت معدومة ، وطعمًا كان لا يشعر به ، فلمَّا أكرمه الله ومَنَّ عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالهداية ذاق الحلاوة ووجد طعم السَّعادة وقرَّة العين وراحة البال وسكون النَّفس أمرًا لم يكن يجده قبل ذلك .
وأحكي لكم في هـٰذا المقام قصَّةً عجيبةً : اتصل بي قبل سنوات رجل بعد صلاة العصر وقال عندي سؤال ؛ ولـٰكن قبل السُّؤال أخبرك بحالي ، قال: أنا أبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة ولا يتحرَّك فيَّ من بدني إلَّا رأسي فقط . قلت: منذ متى وأنت على هـٰذه الحال ؟ قال: منذ سنتين ، قلت: وما سبب ذلك ؟ قال: حادث سيَّارة. قلتُ له : أنت في أيّ مكان ؟ قال: في المكان الفلاني ، قلتُ: أرغب في زيارتك ، وزرته في اليوم نفسه ، وأخذ يتحدَّث لي عن قصَّته حديثا مطوَّلا جلست معه ساعة ونصف ، وفي غالب ذلك الوقت كنتُ مستمعًا ومستفيدًا لأنَّ حياته فيها عبرة ، قال لي كلمة وهي موضع الشَّاهد من القصَّة ولا أطيل بتفاصيلها ، قال لي : « والله إنَّني أحسُّ بسعادة مشيتُ على قدمي كثيرًا أَبحث عنها لم أجدها » ، كان قبل الحادث مفرِّطا، وبعد الحادث أصبح مُقبِلاً على الله ذاكرًا مصلِّيًا تاليًا للقرآن ، أحضر له أحد الأفاضل جهاز كمبيوتر يشتغل بالصَّوت ؛ لأنَّ يده لا تتحرك، وجرَّب أمامي يخاطب الجهاز فتنفتح السُّورة التي يُريد ، يخاطب الجهاز فتنفتح الآية التي يريد ، يخاطب الجهاز فينفتح التَّفسير الذي يريد ، وأمامه القرآن ويقرأ ويحفظ ويقرأ التَّفسير ولا يحتاج إلى تقليب صفحات باليد، أو ينادي أحدًا يقلب له المصحف ، الآية التي يريدها يطلبها مباشرة ويريد تفسيرها أيضًا يطلبه مباشرة ، ويقول: « والله إنَّني أجد سعادةً مشيت على قدمي كثيرا أبحث عنها لم أجدها » .
فليعتبر الإنسان الصحيح وليتعظ ؛ فالهداية والسَّعادة إنَّما تُنال بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، ومن طلبها من غير كتاب الله عزَّ وجلَّ لا يُحَصِّل إلّا ضياعًا ولا ينال إلّا تبابًا وخسرانًا في دنياه وأخراه ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ .
وتنبَّه هنا لقوله: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ﴾ لأنَّ المطلوب في القرآن اتَّباعه لا مجرَّد تلاوته وإقامة حروفه ، فالقرآن إنَّما أُنزل ليُعمل به لا لمجرَّد إقامة حروفه مع إضاعة حدوده ، ولهـٰذا قال: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ﴾ ؛ فالمعنى الّذي تترتَّب عليه السَّعادة اتِّباع الهدى لا مجرَّد حفظ القرآن أو حفظ حروف القرآن . واتِّباع هدى كتاب الله عزَّ وجلَّ فرعُ فهم القرآن وتدبُّره ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[ص:29] فهي أمورٌ لابدّ منها لتُنال السَّعادة ؛ تلاوةٌ للقرآن ، وتدبُّرٌ لآياته ، وعملٌ به واتِّباع لهداه .
قال: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾ أي : أعطى الذِّكر جانبَه صادًّا عنه معرضًا عنه غير مقبِلٍ عليه ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ يعني في الدُّنيا هنا يعيش عيشة الضَّنك ﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ تلك عقوبة أخروية وهـٰذه عقوبة دنيوية ، يعيش عيشةً ضنكا ؛ أي في غمّ وفي همّ وفي ضيقة صدرٍ وفي نكد عيشٍ ، عيشة ضنكا ، ولهـٰذا لما تشتد عيشة الضَّنك على أقوام بسبب شدَّة الإعراض عن دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يلجأ بعضهم في إزالتها عن قلبه بتعاطي المخدِّرات وشرب الخمور والزِّيادة في فعل الآثام والشَّهوات المحرَّمة يظنُّ أنَّها تُكسبه لذَّة ؛ وهي تُمَكِّنُ لعيش الضَّنك في نفسه ، وبعضهم يلجأ إلى الانتحار فيقتل نفسه ويُزهق روحه من شدَّة ما يجد ، بصورٍ شنيعة وبشعة للغاية يريد أن يتخلَّص من النَّكد الذي يعيشه.
فعلى المسلم أن يحمد الله حمدًا كثيرًا طيِّبًا أنْ هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للقرآن ، وأنْ منَّ عليه بمعرفة كتاب السَّعادة وبابها المبارك ، ولْينهل من هـٰذا المعِين العذب والمورد المبارك ليسعدَ في دنياه وأُخراه .
اللَّهم إنَّا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العليا أن تكتب لنا حياة السُّعداء ، وأن تهيئ لنا من أمرنا رشدًا ، وأن تصلح لنا شأننا كلَّه ، وأن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن تغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
والله تعالى أعلم ،
وصلَّى الله وسلَّم على عبد الله ورسوله نبيِّنا محمَّد وآلِه وصحبه