قال ابن عجيبة: ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾: متفقين على الإيمان أو الكُفران، لكن مُقتضى الحكمة وجود الاختلاف؛ ليظهِر مُقتضيات الأسماء في عالَم الشهادة؛ فاسمه الرحيم يقتضي وجود مَن يستحِقُّ الكرم والرحمة، وهم أهل الإيمان، واسمه المنتقِم والقهار يقتضي وجود من يستحِقُّ الانتقام والقهرية، وهم أهل الكفر والعصيان، قال البيضاوي: "وفيه دليلٌ ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يُرِد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراد يجب وقوعه".
﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾: بعضهم على الحق، وهم أهل الرحمة والكرم، وبعضهم على الباطل، وهم أهل القهرية والانتقام، أو مختلفين في الأديان والمِلل والمذاهب، ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾: إلا ناسًا هداهم الله من فضله، فاتَّفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاؤوا به، وهم المؤمنون.
وقوله: ﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾: إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة؛ أي: ولِتكون عاقِبتهم الاختلاف خَلَقَهُمْ، وإن كان الضمير يعود على (مَن)، فالإشارة إلى الرحمة؛ أي: إلا من رحِم ربك وللرحمة خَلَقهم، ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ الأزليَّة على ما سبَق له الشقاء، أي: نفَذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء، أو هي قوله للملائكة: ﴿ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾؛ أي من أهل العصيان منهما، لا من جميعهما[1].
قال ابن عاشور: لما كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من يَنهون عن الفساد فاتَّبعوا الإجرام، وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنه ليس ظلمًا من الله، وأنهم لو كانوا مصلِحين لما أُهلِكوا، لما كان ذلك كله قد يُثير توهُّم أن تَعاصي الأمم عما أراد الله منهم خروجٌ عن قبضة القدرة الإلهية؛ أعقبَ ذلك بما يرفَع هذا التوهُّم بأن الله قادر أن يجعلهم أمة واحدة متَّفِقة على الحق مستمرة عليه كما أمرَهم أن يكونوا.
ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتَضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوح بهم في مسلَك الضلالة، أو في مَسلك الهُدى، على مبلَغ استقامة التفكير والنظر والسلامة من حُجُب الضلالة، وأن الله تعالى لما خلَق العقول صالحة لذلك جعل منها قَبُول الحق بحسب الفطرة، التي هي سلامة العقول من عوارِض الجَهالة والضلال، وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾، لم يدَّخِرهم إرشادًا أو نُصحًا بواسطة الرُّسل ودعاة الخير ومُلقِّنيه من أتباع الرسل، وهم أولو البقيَّة الذين يَنهون عن الفساد في الأرض.
فمن الناس مهتدٍ، وكثير منهم فاسقون، ولو شاء لخلق العقول البشرية على إلهام متَّحِد لا تَعْدُوه، كما خلَق إدراك الحيوانات العُجْم على نظام لا تتخطَّاه من أول النشأة إلى انقضاء العالم، فنجد حال البعير والشاة في زمن آدم - عليه السلام - كحالهما في زماننا هذا، وكذلك يكون إلى انقِراض العالم.
فلا شك أن حكمة الله اقتَضت هذا النظام في العقل الإنساني؛ لأن ذلك أوفى بإقامة مُراد الله تعالى من مساعي البَشَر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة؛ لينتقِلوا منها إلى عالم الحياة الأبدية الخالصة، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلو خلِق الإنسان كذلك، لما كان العمل الصالح مقتضيًا ثواب النعيم، ولا كان الفساد مقتضيًا عقاب الجحيم، فلا جَرَم أن الله خلَق البَشر على نظام من شأنه طريانُ الاختلاف بينهم في الأمور، ومنها أمْر الصلاح والفساد في الأرض، وهو أهمها وأعظمها؛ ليَتفاوت الناسُ في مدارِج الارتقاء، ويَسموا إلى مراتب الزُّلفى، فتتميَّز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يُعَد الواحد بألف ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37].
وهذا وجه مناسبة عطف جملة: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ على جملتي ﴿ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ ﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾[2].
وقال أيضًا: ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على اتِّباع دين الحق كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى: لو شاء ربك لجعل الناس أهل مِلة واحدة، فكانوا أمة واحدة من حيث الدينُ الخالِص.
وفُهِم من شرط (لو) أنَّ جعْلَهم أمة واحدة في الدين مُنتفية؛ أي: منتفٍ دوامُها على الوحدة في الدين، وإن كانوا قد وجِدوا في أول النشأة متَّفِقين، فلم يلبَثوا حتى طرأ الاختلاف بين ابني آدم - عليه السلام - لقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [البقرة: 213]، وقوله: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19]؛ فعلم أن الناس قد اختلِفوا فيما مضى فلم يكونوا أمة واحدة، ثم لا يُدرى هل يَؤول أمرهم إلى الاتفاق في الدين، فأعقِب ذلك بأن الاختلاف دائم بينهم؛ لأنه من مُقتضى ما جبِلت عليه العقول.
ولما أشعَر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين، وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل؛ لأن الحق لا يقبَل التعدد والاختلاف؛ عقَّب عموم ﴿ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ باستثناء من ثَبَتوا على الدين الحق ولم يُخالِفوه بقوله: ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾؛ أي: فعصَمهم من الاختلاف.
وفُهِم من هذا أن الاختلاف المذموم المُحذَّر منه هو الاختلاف في أصول الدين، الذي يترتَّب عليه اعتبار المخالِف خارجًا عن الدين، وإن كان يزعُم أنه من مُتِّبِعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف، وجب على الأمة قصْمه، وبَذْلُ الوُسْع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل؛ بالإرشاد والمجادَلة الحسنة والمناظرة، فإن لم ينجَع ذلك، فبالقتال؛ كما فعَل أبو بكر - رضي الله عنه - في قتال العرب الذين جحَدوا وجوب الزكاة، وكما فعَل علي - كرم الله وجهه - في قتال الحرورية الذين كفَّروا المسلمين، وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.
وأما تعقيبه بقوله: ﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾، فهو تأكيد بمضمون ﴿ وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾، والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: ﴿ مُخْتَلِفِينَ ﴾، واللام للتعليل؛ لأنه لما خَلَقهم على جِبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مُريدًا لمقتضى تلك الجِبِلَّة وعالمًا به كما بيَّناه آنفًا، كان الاختلاف عِلَّة غائية لخَلْقهم، والعلة الغائية لا يَلزِمها القَصْر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى، فلا ينافي ما هنا قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛ لأن القصر هنالك إضافي؛ أي: إلا بحالة أن يَعبدوني لا يشركوا، والقصر الإضافي لا يُنافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الرد عليه بالقصر كما هو بيِّن لمن مارَس أساليب البلاغة العربية.
وتقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ ليس للقصر؛ بل للاهتمام بهذه العلة، وبهذا يندفِع ما يوجِب الحَيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين.
ثم أعقَب ذلك بقوله: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾؛ لأن قوله: ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ يؤْذِن بأن المستثنى منه قوم مختلِفون اختلافًا لا رحمة لهم فيه، فهو اختلاف مضاد للرحمة، وضد النعمة النقمة، فهو اختلاف أوجب الانتقام[3]..
ولذا كان من أعظم مِنن الله على عباده هو اجتِماعهم على الحق وسَيرهم عليه، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، مع ذلك فقد أخبر تعالى أن الاختلاف لا بد من وقوعه؛ ليَمِيز الله الحق من الباطل، فيُضِل من يشاء عدلاً، ويهدي من يشاء فضلاً، فتظهر من آثار حكمه القدرية نظير ما أظهر لعباده من حِكمه الشرعية، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين ﴾ [هود: 118، 119].
فالمرحوم من عباد الله من لا يوجد الخلاف بينهم: ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾، وأعظم الاختلاف وأشدُّه ما كان عن عِلم وبصيرة؛ إذ إن مقتضى العِلم الاجتماعُ على الحق، فإذا حصَل الاختلاف، فلا يكون إلا ببغيٍ وظُلم ظاهرٍ بيِّن؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 4، 5].
ومن هذا المُنطلَق، فإن اختلاف أمة محمد - صلى الله عليه وسلَّم - في أمْر من أمور الديانة - لا يكون إلا مذمومًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ [آل عمران: 105]، ولولا أنه مذموم لما حذَّرهم منه ونهاهم عنه، لا سيَّما وأن بيانه - صلى الله عليه وسلم - أكملُ البيان وأظهَرُه؛ مما لا يجعل مجالاً للاختلاف؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((تركتُكم على المحجَّة البيضاء، لا يَزيغ عنها إلا هالِك))، وقال ابن مسعود: ما ترَك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طائرًا يطير في السماء إلا ذَكَر لنا منه عِلمًا، وهو كِناية عن تَمام البيان، وكمال وضوحه وظهوره؛ بحيث لم يَتبقَّ لأحد بعده حُجَّة أو بُرهان.
ومقتضى النهي عن الاختلاف الأمرُ بالاتِّفاق والاجتماع على الحق؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103][4].
ينبغي أن يعرَف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: أحدهما: (الإرادة الكونية)، وهي الإرادة المستلزِمة لوقوع المراد التي يُقال فيها: ((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن))، وهذه الإرادة في مِثل قوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [الأنعام: 125]، وقوله: ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾ [هود: 34]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه ﴾ [الكهف: 39]، وأمثال ذلك.
وهذه الإرادة هي مدلول اللام في قوله: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119]، قال السلف: خَلَق فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة، ولما كانت الرحمة هنا الإرادة وهناك كونية، وقَع المراد بها؛ فقوم اختلَفوا، وقوم رُحموا.
وأما النوع الثاني، فهو (الإرادة الدينية الشرعية)، وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، وقوله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 26 - 28]، فهذه الإرادة لا تستلزِم وقوع المراد، إلا أن يتعلَّق به النوع الأول من الإرادة[5].
قال الإمام الباقلاني: اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يُريده الله تعالى، وأنه لا يؤمن مؤمن ولا يكفُر كافر إلا بإرادة الله تعالى، ولا يخرج مراد عن مراده، كما لا يخرج مقدور عن قُدرته.
وقالت المعتزِلة ومَن وافَقَهم من أهل البِدع: إن الله تعالى لا يُريد إلا الطاعة والإيمان، فأما من كفَر وعصى، فقد أتى بما ليس بمراد الله تعالى.
وقالوا: إن كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله تعالى، حتى انتهى بهم القول إلى: أن البهائم تفعل أفعالاً لم يُرِدها تعالى، وأنه لو أراد فِعل غيرها منهم، لم يحصُل ذلك له وامتنَع عليه - سبحانه وتعالى عما يشركون.
ونحن بَراء إلى الله تعالى من جهْلهم وبِدَعهم، ونقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة الذي نَدين الله تعالى به أنه لا يتحرَّك متحرِّك، ولا يسكن ساكن، ولا يُطيع طائع، ولا يعصي عاصٍ، من أعلى العُلى إلى ما تحت الثرى، إلا بإرادة الله تعالى وقضائه ومشيئته.
ويدلُّ على صحة ما قلناه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلَّة العقل.
فأما الكتاب، فأكثر من أن يُحصى، لكن نذكُر منها ما فيه الكفاية، ويدلُّ العاقل على نظائر من أدلة الكتاب، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119].
وهذه الآية أوضح دليل وأقوم حُجَّة من وجوه عِدة: أحدها: أنه أخبَر تعالى أنه لو شاء وأراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر والضلال، وهذا خلاف قول المُعتزِلة؛ لأنهم يقولون: إنه ما أراد إلا كونهم أمة واحدة على الإيمان، فبَطَل قولهم ببعض هذه الآية.
الثاني: أنه قال: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119]، فأخبر تعالى أنه خلَقهم لما أراد من اختلافهم، وأنه لم يُرِد أن يكونوا أمة واحدة.
الثالث: قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴾ فأخبر تعالى أن منهم من رحِمَه وأراد رحمته دون غيره، فصحَّ أنه لا يكون من عباده ولا يَجري في مُلكه إلا ما أراده وقضاه وقدَّره[6].
_______________________________
[1] البحر المديد: 3/84.
[2] التحرير والتنوير: 11/349.
[3] التحرير والتنوير: 11/350.
[4] الاختلاف في أصول الدين: أسبابه وأحكامه (1/3).
[5] دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية (2/529).
[6] الإنصاف، الإمام الباقلاني: 1/61.