قال الله تعالى :" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ".
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي ، وهو ابن العجوز ، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا .
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال ابن إسحاق : فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض فقال لهم الله : موتوا ، فماتوا جميعاً فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكراً فقيل له : أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر ؟ فقال : نعم . فأمر أن يدعوا تلك العظام أن تكتسي لحماً وأن يتصل العصب بعضه ببعض فناداهم عن أمر الله له وبذلك ، فقال القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد .
وقال أسباط عن السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله :" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " قالوا : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم ، فوقع في قابل ، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا . فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقيه وأصابعه ، فأوحى الله إليه ، تريد أن أريك كيف أحييهم ؟ قال : نعم ، وإنما كان تفكيره أنه تعجب من قدرة الله عليهم ، فقيل له : ناد ، فنادي : يا أيتها العظام . . إن الله يأمرك أن تجتمعي . فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض ، حتى كانت أجساداً من عظام ، ثم أوحى الله إليه . أن ناد : يا أيتها العظام عن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ، فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها . ثم قيل له : ناد . فنادى : يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي . . فقاموا .
قال أسباط : فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عدا رسماً ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .
وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف ، وعنه ثمانية آلاف ، وعن أبي صالح تسعة آلاف ، وعن ابن عباس أيضاً كانوا أربعين ألفاً ، وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات
وقد روى الإمام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام . فذكر الحديث . يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً ببعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول " إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " فحمد الله عمر ثم انصرف .
وقال الإمام : حدثنا حجاك ويزيد المفتي قالا : حدثنا ابن أبي ذؤيب عن الزهري ، عن سالم ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم ، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه . قال : فرجع عمر من الشام .
وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه .
قال محمد بن إسحاق : ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه ، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظمت فيهم الأحداث وعدوا الأوثان وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل فبعث الله إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران .
قلت : وقد قدمنا قصة إلياس تبعاً لقصة الخضر لأنهما يقرنان في الذكر غالباً ، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات فتعجلنا قصته لذلك . . والله أعلم .
قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال : ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام .
قصة اليسع عليه السلام
وقد ذكره الله تعالى قوله :" وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " وقال تعالى في سورة صلى الله عليه وسلم :" واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار " قال ابن إسحاق : حدثنا بشر أبو حذيفة ، أنبأنا سعيد ، عن قتادة عن الحسن ، قال : كان بعد إلياس اليسع عليهما السلام ، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكاً بمنهاج الياس وشريعته حتى قبضه الله عز وجل إليه ، ثم خلف فيهم الخلوف وعظمت فيهم الأحداث والخطايا وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء ، وكان فيهم ملك عنيد طاغ ، ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمي ذا الكفل .
قال محمد بن إسحاق : هو اليسع بن أخطوب .
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في حرف الياء من تاريخه : اليسع وهو الأسباط بن عدي بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل . ويقال هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام ، ويقال كان مستخفياً معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعده .
ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس بن سنان عن أبيه ، عن وهب ابن منبه ، قال وقال غيره : وكان الأسباط ببانياش .
ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف والتشديد ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الأنبياء .
قلت : قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليه السلام لأنه قد قيل إنه ابن أيوب . . والله تعالى أعلم .
قال ابن عباس وكثير من المفسرين : هذا النهر هو نهر الأردن ، وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له ، عن أمر الله له اختباراً وامتحاناً : أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة بيده .
قال الله تعالى :" فشربوا منه إلا قليلا منهم ".
قال السدي : كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب منه ستة وسبعون ألفاً ، فبقي معه أربعة آلاف . كذا قال .
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : كنا أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) نتحدث أن عدة أصحاب بدر عدة أصحاب طالت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن . وقول السدي إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفاً فيه نظر ، لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتله يبلغون ثمانين ألفاً . . والله أعلم .
قال الله تعالى :" فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم " قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " يعني ثبتهم الشجعان منهم والفرسان أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان .
" ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق ، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغي والدعاء إلى النزال فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه ، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليهم فيه رغبوا .
ولهذا قال :" فهزموهم بإذن الله " أي بحول الله وقوته لا بحولهم ، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم ، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم ، كما قال الله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ".
وقوله تعالى :" وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلاً أذل به جنده وكسر جيشه ، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ويأسر الأبطال والشجعان والأقران ، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ويدال لأولياء الله على أعدائه ، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه .
وقد ذكر السدي فيما يرويه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكراً ، كان سمع طالوت مالك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول : من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي ، وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة وهو المقلاع رمياً عظيماً ، فبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت . فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك ، فأخذ الثلاثة في خلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له : ارجع فإني أكره قتلك . فقال : لكني أحب قتلك . وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعهما في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجراً واحداً . ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر جيشه مهزوماً ، فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك بنو إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك ولم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، ثم حصل له تابوت وندم وإقلاع عما سلف منه ، وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت . . قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموات . فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله ثم جعل يسأل عن عالم يسأل عن أمره وهل له من توبة ، فقيل له : وهل أبقيت عالماً ؟! حتى دل على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام . قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال : أقامت القيامة ؟ فقالت : لا ، ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة ؟ فقال : نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل . ثم عاد ميتاً .
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا . قالوا : فذلك قوله :" وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ".
هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده . وفي بعض هذا نظر ونكارة . . والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب . حكاه ابن جرير أيضاً .
وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر شمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور ، وهذا أنسب . ولعله إنما في النوم لا أنه قام من القبر حياً ، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية . . والله أعلم . قال ابن جرير : وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة . . والله أعلم .