البراء بن مالك
صقر حروب اليمامة
إضاءة:
البطولة، محببة إلى النفس الإنسانية في كل زمان ومكان، والحديث عنها شيق جذاب، وله تأثير في النفوس، لذلك ندرس التاريخ، وندرس فيه سيرة الأبطال نحن الآن في هذه الصفحات، نتعرف إلى كوكبة من أبطال الإسلام، ومنهم البراء بن مالك.
في حروب الردة:
ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصبحت الجزيرة العربية، كأنها بحر يموج بالمرتدين، ولم يثبت على الإسلام إلا المدينة المنورة ومكة المكرمة، وفيهما الحرَمان الشريفان، وكان أخطر هؤلاء المرتدين مسيلمة الكذاب.
فبعث الصديق خالد بن الوليد رضي الله عنهما، إلى قتالهم.
المعركة:
تواجه الفريقان، وكان جيش المرتدين أكثر من أربعين ألفاً، وجيش المسلمين أقل من ربع هذا العدد، فوقف مسيلمة في جيشه خطيباً وقال: دافعوا عن أحسابكم. ووقف خالد في جيشه خطيباً وقال: دافعوا عن دينكم.
التحم الجيشان في معركة يشيب لها رأس الولدان، وكان في جيش المرتدين الرَّجال، كان لعنه الله كان أشد على المسلمين من مسيلمة، فتن أناساً كثيرين، وفي المعركة كان يصول بسيفه ويجول، فعاجله زيد بن الخطاب فقتله.
ودارت رحى الحرب كأعنف ما تكون الحروب، وحمي الوطيس، واستمات الفريقان من الصفين.
تميزوا:
نظر خالد إلى ميدان المعركة نظرة شاملة، فرأى المهاجرين ومعهم الأنصار وبينهم الأعراب، فصاح كلمة واحدة (تميزوا) وسمع الجيش النداء، فانضم المهاجرون إلى المهاجرين، والأنصار إلى الأنصار، فثبتوا ثبات الجبال.
حديقة الموت:
تراجع المرتدون أمام هجمات المسلمين واستبسالهم في المعركة، ودخلوا حديقتهم وهي محصنة بالأسوار وأغلقوا عليهم الباب، فأحاط بهم الصحابة إحاطة السوار بالمعصم، وظن المرتدون أنهم في حديقتهم آمنون، وقدر خالد أن الحرب ستطول، لأن المرتدين فيها يدافعون....
إلى أن تقدم البراء فحسم الموقف.
البراء صقر حديقة الموت:
نظر البراء رضي الله عنه إلى حال المرتدين في داخل حديقتهم، إذ لا أحد يصل إليهم، ونظر إلى المسلمين فرآهم كأنهم مكبلون عن أن يصلوا إليهم، فلمعت في ذهنه فكرة، ما كانت تخطر ببال أحد غير البراء، تقدم إلى الصحابة وقال: ألقوني عليهم، رفعوه على ترس، ورفعوا الترس على الرماح، ثم قذفوا البراء من فوق سور الحديقة، فهبط عليهم من فوقهم يصيح: "الله أكبر".
ذعر له المقاتلون في الحديقة في وهلتهم الأولى، وصدمتهم المفاجأة، هل هذا طائر سماوي انقض عليهم وهو يصيح صيحة النصر: الله أكبر؟.
ذعر المقاتلون برهة من هول المفاجأة والبراء يعمل فيهم السيف، ثم تنبهوا إلى أنفسهم، فلم يزل يقاتلهم وينحاز إلى باب الحديقة حتى تمكن من فتحه.
دخل المسلمون الحديقة وكأنهم السيل الهدار، وصاروا يقتلون في المرتدين، وكأن قوة غيبية شلت حركتهم.
مقتل مسيلمة الكذاب:
وكان مسيلمة قد التجأ إلى الجدار، وهو يرغي ويزبد لا يعقل من الخوف والغيظ، وكان في جيش المسلمين مقاتل وحربته في يده وهو يلوب باحثاً عن مسيلمة، لقد قتل بهذه الحربة سيد الشهداء، ويريد الآن أن يكفر عن ذنبه بأن يقتل أكذب الأشرار الذين ادعَوا النبوة.
تقدم وحشيٌّ بحربته فهزها، على طريقة المقاتل الذي يريد أن يسدد ضربته القاصمة، حتى إذا رضي منها، دفعها إلى قلب مسيلمة فاخترقته، ونفذت من ظهره، وسارع أبو دجانة إليه واحتز رأسه.
قتل من قتل من المرتدين، وأسر من أسر، ثم دعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا كلهم.
البطل الجريح:
إن سامع هذا الخبر، وقارئ هذه القصة، لا بد إلا أن يتلهف لمعرفة خبر صقر حديقة الموت، لا بد أن يقوم في نفسه سؤال: ما أخبار الصقر الذي طار فوق الأسوار وانقض على المرتدين، وقاتلهم وقاتلوه حتى فتح الباب؟ ما أخباره؟ هل عاش أم أن سيوف القوم قد مزقته؟.
يقول المؤرخون:
وتفقدوا البراء، فإذا به أكثر من ثمانين جرحاً بين ضربة بسيف وطعنة برمح.. وقد ظل بعد المعركة شهراً كاملاً، يشرف عليه خالد بنفسه على تمريضه، وكان البراء يتمنى الشهادة، وكأن الأقدار قد خبأته ليوم ولا كيوم اليمامة.
البراء والسلسلة النارية:
بعد حرب اليمامة والفراغ من مسألة المرتدين، بدأت حروب العراق، وفيها الحصون الشاهقة، وقد لجأ المجوس إلى استعمال كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محماة بالنار، يلقونها من حصونهم فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكاً، وكان البراء، وأخوه أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشتركَين في حرب أحد هذه الحصون، وبشكل مفاجئ، هبط أحد هذه الكلاليب وتعلق بأنس ورفعه، ولم يستطع أنس أن يمس السلسلة ليخلص نفسه منها، فأسرع نحوه أخوه البراء، وكانت السلسلة تصعد به، فقبض عليها بيديه، وراح يعالجها حتى قطعها ونجا أنس، وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه، فلم يجدوهما مكانهما، لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي محترقاً، وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى يبرأ.
(اللهم انصر المسلمين واستشهدني):
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً وأمِّر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك.
تكامل هذا الجيش من الكوفة والبصرة، وعلى الجميع النعمان بن مقرِّن فانتهى إلى الهرمزان، فاقتتلا قتالاً شديداً فانهزم الهرمزان وفر إلى تُستر فلحقوا به، فوجدوه قد حشد خلقاً كثيراً فحاصروهم شهراً.
ودارت المعركة حامية كأعنف ما تكون الحروب من الفريقين، وقَتل البراء مئة مبارزة غير من قتله في المعركة، وتكررت المعارك، حتى إذا كان في نهاوند قال المسلمون للبراء، وكانوا يعرفون أنه مجاب الدعوة: يا براء ادع لنا الله أن يهزمهم. فقال: (اللهم انصر المسلمين واستشهدني).
والمعركة حامية دامية، والقتلى يتساقطون من الفريقين وكان الهرمزان من أخبث خلق الله تعالى، فكان معه خنجر، وفي المبارزة بين البراء والهرمزان طاحت السيوف وبدأ التشابك بالأيدي والأظافر والأسنان، فأخذ الهرمزان الخنجر وضرب به البراء فقتله، وما زالت المعارك مشتدة حتى أُسر الهرمزان، فاستسلم بشرط أن يُحمل إلى عمر فيحكم به كيف شاء.
أنا أُأَمِّن قاتل البراء؟:
ولما وقف الهرمزان بين يدي عمر، طلب ماء، فلما أخذ الكأس، صارت يده ترتجف وقال: إني أخاف أن أقتَل وأنا أشرب.
قال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه. فصب الماء على الأرض.
قال عمر: أعيدوه عليه، لا تجمعوا عليه القتل والعطش.
قال الهرمزان: لا حاجة لي بالماء.
قال عمر: إني قاتلك.
قال الهرمزان: إنك قد أمَّنتني
قال عمر: كذبت، أنا أُأَمن قاتل البراء بن مالك؟
ثم أسلم الهرمزان.
رضي الله عن البراء في الخالدين
منقول