موسوعة "أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام" للشيخ عطية صقر، الجزء السابع، ص470-472
اختلف السلف في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر؛ فذهب الجمهور إلى ذلك، ومنعه جماعة منهم الإسفرايينى، ونقله عن ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية، وحجتهم أن المخالفة بالنسبة إلى جلال اللَّه كبيرة على كل حال. أما الجمهور فحجتهم قوله تعالى: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" [النساء: 31]، وقوله تعالى: "الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ "[النجم: 32]، وحديث تكفير الذنوب الوارد في الصلاة والوضوء مقيد باجتناب الكبائر. وبهذا ثبت أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات العامة ومنها ما لا يكفر بها، ولهذا قال الإمام الغزالي: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. ثم إن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب تفاوت مفاسدها، قال الطيبي: الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان، فلابد من أمر يضافان إليه، وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة والمعصية والثواب؛ فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا فهو من الصغائر، وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة، وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة؛ فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية. انتهى. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا، فروي عن ابن عباس "أنها كل ذنب ختمه اللَّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب". قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد اللَّه عليه بنار في الآخرة، أو أوجب فيه جزاء في الدنيا. يقول الشوكاني في نيل الأوطار، ج 8 ص 222: وممن نص على هذا الإمام أحمد، ومن الشافعية الماوردي، ولفظه: الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود، أو توجه إليها الوعيد.
وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، وقال الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد، وقيل: هي ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كعقوق الوالدين، وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة، أما العقوق مثلا فقد صح فيه حديث أنه من أكبر الكبائر. قال ابن عباس في القواعد: لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها، قال الحافظ: وهو ضابط جيد. هذا، وقد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار". والإصرار قيل: هو التسويف، أي أن يقول: أتوب غدا. وقيل: هو الثبات على المعصية، وقيل: هو أن ينوي ألا يتوب، وهو بالمعنى الذي قبله. وروى في الحديث "لا توبة مع إصرار" القرطبي ج 4 ص 211. أما عدد الكبائر فمختلف فيه، وما جاء منها في بعض الأحاديث فليس للحصر، وروى الطبراني عن ابن عباس "أنها إلى السبعين أقرب.