كان المطر ينهمر بشدة على زجاج سيارة المحامي الذائع الصيت وهوعائد من بيروت الى الشام ..عندما وصل إلى مشارف المدينة ،كانت رشقات المطر قدازدادت عنفا وشدة ..اضطر معها المحامي المشهور إلى إغلاق نافذة سيارته الجانبية .. و اضطر معها إلى إطفاء سيجاره الفاخر بعد ان اصبحت سحابةالدخان في هذه السيارة المغلقة ، ضبابا اسود يمنع الرؤيا من خلال الزجاجالأمامي ..نفض عن معطفه بقايا الرماد العالق عليه ، واستوى في جلسته ،فالقيادة في هذا الجو أصبحت شديدة الخطورة وهو شديد الحرص على حياتهلدرجة أن شهرته في الحرص تعدت شهرته الأدبية ـ ـ ـ ـ ـبدأ يفكر في هذا الطريق الخالي ,وتذكر منذ يومين عندما أخذته نشوة النجاح ، ( فالنجاح في عمله اصبح جزءا من شخصيته الأرستقراطية) ـ في أن ينزل إلى الشارع ليرى ردة فعل الناس على مجموعته القصصية والتي أصبح الإستماع إليها تقليدا اجتماعيا ، بعد ان تحولت الى مسلسل إذاعي مشهور.. كانت الشوارع وقت اذاعة الحلقة تكاد تخلو من المارة ، فالكل يتحلقون حول أقرب راديو يصادفهم ، والكل يتساءل ويخمن: ماذا عساها أن تكون جريمة هذاالاسبوع ؟ .. لم يصبه الغرور كثيرا لأن الغرور لم يكن ينقصه أصلا ..إنه كاتب قصص الموت والجرائم وحكايا الرعب وحوادث القتل التي تحدث باسم الجن والشياطين ...ذكّره هذا الطريق الخالي أمامه ، بحال الطريق وقت إذاعة الحلقة ، فأصابته نشوة غرور عارمة ..وابتسم لنفسه قليلا : أنا كبير السن ، هل يتجرأ أحد من زملائي ، حتى الأصغر سنا مني ، على السفر لوحده في هذا الطريق الطويل الموحش ، وبهذا الوقت المتأخر من الليل ، وبهذا الجو المخيف ؟هز رأسه واتسعت ابتسامته قليلا....لكن ما رآه أمامه ,جعل وجهة يكفهر بسرعة غريبةوابتسامته تتلاشى !!!!رأى عن بعد ، خيال فتاة في مقتبل العمر ، تصرخ بطريقة هيسترية ،محاولةَإيقافه، لم تكن الفتاة بحاجة إلى هذا الإلحاح لتوقفه ، فهو طوال حياته كان الفارس النبيل قولا وفعلا (او على الاقل هكذا كان ينظر لنفسه ) ..ضغط على الفرامل بشدة رغم حرصه الذي عرف عنه ...هاله وأرعبه منظر الفتاة ، كانت شبه عارية لا يسترها سوى غطاء قطني أبيضمائل للسمرة وممزقا لدرجة ان ماكان مكشوفا من جسدها الـبعـض المبلل بماء المطر ،أكثر مما كان مخفيا ...فتح لها الباب فقفزت بسرعة جنونية ..كانت تنكفأ وتنطوي على نفسها محاولة ستر ما يمكن ستره من نصفهاالاسفل ..ترك المحامي مقود السيارة ريثما يخلع معطفه الأسود،وألقاه على جسدهاالفتاة ، كان وجود الغطاء الرمادي على جسدها كعدمهوما إن التقطت الفتاة المذعورة أنفاسها حتى بدأ سيل الاسئلة المحبوسةفي فمه ينهمر كسيل المطر المنهمر في الخارج..- ما قصتك يا بنتي ؟ ومالذي اتى بك الى هذه المنطقة الموحشة ؟ ..حسب ما أعرف ليس في هذه البقعة المهجورة سوى هذه المقبرة ..وما هذا الغطاء الذي ترتدينه والذي يشبه ....- الكفن ..أعرف ما ستقول...إنه في الواقع غطاء سرير أبيض قديم ومهترىء ، حتى يخيل إليك أنه رمادي اللون بسب اتساخه ..هذا ما وجدته أمامي لأستر نفسي به ..أرجوك يا أستاذ خليل سأروي لك كل شيء غداولكني منهارة ولا أستطيع الرجوع بذاكرتي إلى هذه الليلة القاسية و..-أتـفهـّـم ذلك يا ابنتي ..هدئي من روعك ، ولن أسألك شيئا ..سؤال واحد بعيدا عما حدث ..كيف عرفت اسمي ؟صحيح ان كتبي ورواياتي معروفة لكن ..لكن مسألة الظهور أمام الناس لا أراهن عليها كثيرا،قد أكون شخصية مرموقة ، ولكن من أين لفتاة مثلك في مقتبل العمرأن تراني قبل الآن ؟- ومن لا يعرف الاستاذ خليل القوادري كاتب الروايات البوليسية وقصص الرعب المعروف ..كنا نقرأ كل قصصك في المدرسة ،حتى المدرسات كن يختصرن الدروس حتى يسمعن قصصك عبرالراديو ، .. هلا ّ انعطفت يمينا يا عمي ؟- طبعا ، طبعا ..نسيت أن أسألك أين تقيمين ؟- نحن نقيم في الدور العلوي لعمارة على مشارف الجبل ولكن من ناحيةاوتوستراد بيروت ، وليس من ناحية مركز المدينة ..انا وحيدة والديّ ..إسمي حنان..أبي طبيب جراح ، ووالدتي طبيبة أسنان ـ ـ ـتوقفت السيارة أمام بناء بدا أنه قديم العهد بالبناء لكنه في غاية الفخامة ..-هلاّ أكملت معروفك معي أستاذ خليل ، وتركت لي المعطف حتى أصعد الى البيت .. ثم تابعت بإندفاع :آها ..لما لاتأتي صباح غد لزيارتنا، لأعيد لك معطفك و تتناول قهوتك مع أبي ..سيكون سعيدا جدا بقدومك ، فهو يحب مؤلفاتك وشخصيتك جدا..- دعوة كريمة لا أستطيع رفضها ..في الواقع لا أعلمإن كنت سأخلد للنوم حتى صباح غد ، فأنا أموت شوقا لأعرفما جرى لك في هذه الليلة العصيــبــة ..حسنا ..سأبقى لحظات ريثما أطمئن أنك وصلت لباب شقتكــ استودعك الله يا ابنتي ..- بل إلى اللقاء صباح غد أيها الرجل الطيب ...بعد دقائق اندفعت سيارة المحامي وسط بركة الماء التي اتسعت بمحاذاة الرصيف كله . ـ ـ ـ ــــ ماهذه الليلة الطويلة ؟ مطر لا يريد أن يتوقف ،وقصة غريبة عشت بدايتها ولن أعرف نهايتها حتى صباح غد ..متى تأتي أيها الصباح البعيد ــ .ــــــ كان صباح اليوم التالي ممطرا أكثر مما قبله ، فما إن استرد المطرأنفاسه خلال ساعات الليل الأخيرة ، حتى بدأ ينهمر بعنف مرة ثانية مع بزوغ الفجر ..توقف الأستاذ خليل تحت العمارة ، وصعد إلى الشقة بسرعة لا تتناسب مع سنه , فها هو قد أصبح على بعد خطوة من حل اللغز الذي ابقاه ساهرامعظم الليل ..رن الجرس وانتظر برهة ، حتى فتح له الباب رجل في بداية العقدالخامس من عمره ،وكان وجهه تعبا وحزينا لكنه كان بشوشا لدرجةشجعت المحامي على أن يشد على يديه طويلا قبل أن يدلف للداخل ..-أنا ....-تفضل يا سيدي ، فأنت غني عن التعريف ..من لا يعرف الدكتور خليل القوادري الأديب وأستاذ الجامعة المعروف ..فرصة سعيدة حقا ..جلس المحامي بشيء من الصلف والثقة ، بينما كان مضيفه ينادي زوجته ..-تعالي يا أم يوسف وسلمي على ضيفنا العزيز ، ستكون مفاجأة لك..مفاجأة !! ألم تقل لهم الفتاة أنني قادم ..حسنا ربما أنها ...دخلت أم يوسف الى الصالون ..مازالت تحتفظ ببريق جمالها رغم الحزن الدفين الذي اختزنته تقاسيم وجهها هي أيضا ..وكان وجههاالأبيض يوحي بالطيبة والوقار رغم صغر سنها.. سلمت على الضيف الكبير ..-أهلا يا أستاذ ..تفضل بالجلوس ، رجاءا-أهلا دكتورة ، شكرا لك ، ثم رفع وجهه مخاطبا زوجها الطبيب-شكرا لهذه الحفاوة البالغة ..في الواقع أخي أبو يوسف ..حسنا ..يبدو أنكم لم تتوقعوا زيارتي ، ألم تخبركم كريمتكم حنان بأنني قادم ؟نظر الزوجان لبعضهما غير مصدقين ، فمن يتحدث لا يبدو عليه الجنون ..بل لا يمكن الشك بكلامه ، فهو شخصية مرموقة مشهودٌ لها بالحكمة والعقل الراجح..-أأنت متأكد مما تقول يا سيدي ؟- حسنا ..يبدو أنها أخفت عنكم شيئا ما .. في الواقع لقد كانت في حالةيرثى لها ، وقد وعدتني بأن تحكي لي القصة بالتفصيل اليوم عندما آتي لاسترداد معطفي ..ألم تقل لكم ؟ أعني ..ألم تلاحظوا المعطف الأسود الذي دخلت به إليكم ليلة أمس ؟ ...يبدو أن الزوجان كانا في حالة من الذهول لم يتمكنا معها من سماع الضيف , وأسئلته المندفعة من فمه كالرشاش ..- للمرة الثانية أسألك يا أستاذ خليل ..هل أنت متأكد مما تقوله ؟- وهل تظن يا دكتور بأن سني ومركزي الاجتماعي ، يسمح لي بالعبث واختلاق قصة كهذه ..آووه ..الحمد لله ، هاهي يا أبو يوسف ، وأشار إلى صورة معلقة على الجدار على يساره ..ليس غريبا أنه لم يلحظها عنددخوله فقد كانت مواربه بفازة كبيرة طويلة الأغصان ...{ــــ ستندم طوال عمرك على أنك سافرت إلى بيروت أيها المحامي الشهير،وعلى أنك عدت منها ..وعلى أنك شاهدت ,وأتيت ..وسألت ..ــــ }
إستفاق الرجـل المصدوم من هـواجـسه على صـوت مـضـيفه أبا يوسف :- على ما يبدو أنك لم تلاحظ الشريطة السوداء على زاوية الصورة منالأعلى يا أستاذ خليل ..هذه ابنتنا حنان فعلا ، لكنها توفيت منذ تسعسنوات في حادثٍ مروري أليم . .. .
{لم أعد أحتمل المزيد من المفاجآت ، على الأقل لهذا اليوم ، هل كبرت على
مواقف مخيفة كهذه ..اذا سمعت إجابة شافية ، سأعود الى مكتبي لأمزق كل
قصص الجريمة والرعب التي كتبتها ..فأي رعب أكثر مما أنا فيه ؟ ..حتى لو
كنت أحلم ، فهو أسوأ كابوس داهمني في حياتي }
- يا أبا يوسف ، يا أم يوسف .. هل تظنون أني خرفت حتى أحكي لكم قصة عن
فتاة توفيت منذ تسع سنوات ؟ أقول لكم ، غطيتها بمعطفي الأسود ..وكانت
عارية ..عفواً ، أقصد لم يكن يسترها سوى رداء أبيض أشبه ب..استغفر الله ..
بالكفن ، و انتـشلتها من على الطريق من مكان ليس فيه سوى مقبرة الإيمان ..أعتقد
أنكم تعرفونها ..
جحظت عينا أبو يوسف قليلا ..ثم عاد وجهه إلى اتزانه السابق ..وفتح فمه ببطأ
محاولاً شرح شيء وفهم أشياء أخرى - ..
- أتقول : مقبرة الإيمان ، نعم ابنتي مدفونة هناك ..هذا صحيح ، ولكن متى كان
الأموات يركبون السيارات يا دكتور .. بالله عليك ، اعذرني فأنا
لا أشك في روايتك ، ولكن نحن أيضا لسنا مجانين حتى نصدق بأن ابنتنا
المتوفاة منذ تسع سنين ، أتت ليلة أمس الى البيت ..متى ؟ وكيف ؟
- هلاّ اريتني قبر المرحومة ابنتكم ؟ نطقها المحامي برتابة كلمة كلمة و هو يصر
على اسنانه و كأنه انسان آلي ..
- حسنا ، اود فعل شيئ من اجلك منذ قدومك ..سأصحبك الى المدفن الآن و أريك
قبرها .. أما معطفك الاسود . فلا أظنه يهمك معرفة ما آل إليه مصيره قبل أن
نجد شيئا ينقذنا من حيرتنا الآن .. يبدو أنني اشد رغبة منك الآن في رؤية قبر
ابنتي للوصول إلى نهاية لهذه القصة التي لا يصدقها عقل ..ــ كانت أم يوسف وأثناء حديث الرجلين اشبه بأحد التماثيل الثلجية التي كانت
تصنعها ابنتها حنان في طفولتها أيام الثلج --صلبٌ كفاية لأن يصمد قليلا ، لكنه
مهددٌ بالإنهيار في أي لحظة --
{ آه ...أما آن الأوان لهذه الذكرى ان تندثر ، ولهذا الوجع أن يستكين؟ ..قلبي
احترق حزنا عليكِ يا حبيبتي ، وما ينبض في جسدي المنهك هو رماده لا اكثر ،
لقد كبرتُ عشرين عاما في يوم واحد ..
يومٌ لم أشهد سوادا أكثر من منه ، تسع سنين في تسعين سنة , عاهدت نفسي
أن لا أعيش لغيرك وأنت حية ، فلمن أعيش بعد موتك؟ لم يكن أحد من زوار
المدفن يخرج منه قبل أن يمر على قبرك ..كانوا يعلمون كم كنت تحبين الأطفال
والخير والثلج .. وكانوا يشعرون بأن الملائكة تجتمع كل يوم فوق بيتك الصغير
في ذلك المدفن ..فأطلقوا عليك اسم عذراء القبور ، فقد كنت أصغر المتوفيات
سنا ... كيف خطر لذلك السائق ا لمتهور ان يدهس تلك الوردة ذات الستة عشر ربيعا }ـــ كانت حنان تعبر الشارع ..الى جمعية اليتامى في الجانب الآخر .. لتضع ما
تملكه من ثياب ، والعاب ومصروفها من والديها على طاولة مديرة الجمعية ،
بعد أن تقطع مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام ..لم تكن قبل ذلك تضطر إلى
قطع هذه المسافة ، لولا أن انتقل مقر الجمعية ، من مقابل مدرستها تماما إلى
منطقة بعيدة ، خافت حنان وقتها من أنها لن تستطيع بعد الآن زيارة الجمعية
للتبرع واللعب مع الأطفال اليتامى ولو لساعات كل أسبوع .. سمعت حنان
يومها من معلماتها بأن صاحب الأرض التي بنيت عليها الجمعية رفع دعوى
على الجمعية لإسترداد الأرض بحجة أن الأرض مملوكة لجده ..ولأنه صاحب
نفوذ في دوائر الحكومة ولدى السلطة القضائية ، ربح الدعوى وهدم الجمعية
ليبني عليها مكاتب تجارية .. واضطرت الجمعية إلى استئجار مبنى قديم في
منطقة بعيدة بسبب قلة مواردها المالية ... كم كرهت حنان يومها كل أصحاب
الأراضي وكل المحاكم وكل القضاة وكل شيئ ...حتى البراءة أحيانا تتعلم الكره
وحب الإنتقام وصل الرجلان إلى المدفن ، كانت الغيوم السوداء الكثيفة قد حولت هذا الصباح الجنائزي إلى لوحة مخيفة من الليل الداكن ..
وكانت شواهد القبور تنطق بالحقيقة الوحيدة في حياتنا ..
ـــ كم أنت قريب أيها الموت رغم أننا لا نراك ..أو على الأغلب لا نريد ان نراك ـــ .
كان الرجلان صامتين ، والمحامي يحاول - استعدادا لأي مفاجأة محتملة -
أن يبدو صلبا عنيدا ، على الأقل أمام أبو يوسف .
ــ أنت تكتب رواياتٍ تنشر الرعب بين القراء ، فهل ستسمح لنفسك بأن تبدو مذعوراً أمام احد قرائك ؟ ـــ
ما إن اقترب الإثنان من قبر حنان ، وقبل أن يتمكن أبو يوسف
من رفع يديه لقراءة الفاتحة ، حتى انهمر سيل المفاجآت كصاعقة مباغتة ..
كانت المفاجأة الأولى هي الكفن الأبيض - الرمادي - كان مرميا على القبر
وملفوفا كأنه يغطي شيئا تحته
ـــ الم تكن تكفيك هذه المفاجأة أيها المحامي الشجاع ؟
حسنا ، اليك الثانية :رفع الأستاذ خليل الكفن المهترء ، هاهو المعطف الأسود ، مرتب ومصفوف على جرائد ..لا إنهما جريدتين فقط ..
ـــ كم سيحتمل قلبك المسن من مفاجآت أيها المحامي العتيد ..
ربما إن إجتاز قلبك الحديدي المفاجأة التالية ، سيصبح المجهول القادم
أسهل وطأة ً مما مضى على دقاته المتسارعة ـــ
كانت الجريدة الأولى صفراء اللون ، ومن إصدار قديم ،اصدار بتاريخ سابق لهذا اليوم بتسع سنوات ..
على الصفحة الأولى ، من الأسفل مربع متوسط الحجم ..
إنه نعي وفاة حنان إثر حادث دهس ٍ مفجع،
ولأن الفتاة كانت محبوبة لدى جمعيات البر والإحسان ، فقد كان النعي باسم
جمعية رعاية الأطفال المصابين بالسرطان..
ـــ هاهم الملائكة الصغار يزفون حبيبتهم العذراء في أجمل عرس ٍ للموت
كان عليك أن تراه أيها الكاتب المغرور ..
ترنح الأستاذ خليل قليلا ، وشعر بأن قواه بدأت تخور
ـــ لملم شجاعتك أيها الفارس الصنديد ..
لم يبق سوى مفاجأة أخيرة وصغيرة فلا تسمح لها بأن تكون القاضية ـــ .
تناول الاستاذ خليل الجريدة بيدين ترتعشان ..كانت الجريدة مفتوحة على الصفحة الرابعة ،
أعاده الخبر الى عشر سنين خلت ،وأطبق على عينيه كالمطرقة ،
لم تعد عيناه تشاهدان بوضوح ، لكنه اضطر إلى قراءة الخبر
ليقنع نفسه بأنه مازال على قيد الحياة ..
*صدور الحكم النهائي بالدعوى المقامة من المحامي خليل القوادري ،
على أحد الجمعيات الخيرية، لصالح المدعي ، بعد أن كان المحامي قد ادعى
بأن الأرض أساسا مملوكة لجده سليمان باشا القوادري *...
تراخت ساقا الأستاذ خليل .. وبعينين نصف مغمضتين رأى نفقا بعيدا مظلما
،ونورا يسطع في آخره وسمع صوتا عاد بذاكرته الى يوم امس ..
آخر عبارة سمعها من حنان قبل أن تغادر سيارته ..كانت تقف في آخر النفق ..
يا آلهي ! كيف أمكنني أن اسمعها وهي أبعد مما يمكن لعينيّ أن ترى ..
إنني أسمعها بوضوح ..(إلى اللقاءأيها الرجل الطيب )
وكان آخرما رأه هو أبو يوسف يمد يديه محاولا رفعه ,
قبل ان يسقط على الأرض مغشيا عليه .....
كان صباح اليوم التالي مشرقا على غير العادة ، وكان أبو يوسف جالسا على الفراندا
يتناول قهوته الصباحية ..لم تكن لفحات البرد تمنعه من الأسترخاء تحت أشعة الشمس
بعد أن اضناه التعب عقب تلك الليلة المشؤومة والغريبة حتى بأدق تفاصيلها ..
كان قد قضى اليوم كله و الساعات الأولى من ليلة أمس في المستشفى
مع الأستاذ خليل بعد أن أسعفه بصعوبة ،
وتحاشى طوال اليوم الفائت سرد حقيقة ما حدث لأحد حتى لزوجته الطبيبة ،
ثم عاد الى بيته ليأخذ قسطا من الراحة ، ريثما يعود للإطمئنان عليه مساء هذا اليوم ..
رفع أبو يوسف الصحيفة اليومية من تحت صينية الشاي ..
أصبحت الصحيفة شبحا ينذر باقتراب النهايات المؤلمة ..
في الصفحة الأولى وبخط عريض قرأ هذا الخبر المؤلم :
ـــ إتحاد المحامين العرب واتحاد الكتاب العرب ينعون إليكم ببالغ الأسى والحزن ،
وفاة المع كتاب روايات الجريمة وقصص الرعب
الأديب والمحامي الدكتور خليل القوادري ،
أستاذ القانون الدولي المعروف ، إثر نوبة قلبية داهمته صباح أمس أثناء زيارته
لمدفن الإيمان على طريق بيروت الرئيسي ..إن لله وإنا اليه راجعون
- رحمك الله يا أستاذ خليل ..رددها أبو يوسف بصوت منخفض رتيب ..
وتابع بصوت غير مسموع وكأنه يعرف سراً لا يعرفه أحد غيره
- ايه .. يمهل ولا يهمل ..ثم رفع صوته مناديا زوجته :
- علينا العودة قبل خروج الجنازة من المستشفى ..والغيوم بدأت تغطي السماء ..
أسرعي يا أم يوسف قبل أن تمطر مرة ثانية –..
نهض أبو يوسف ليرتدي ثيابه على عجل إستعدادا لزيارة
قبر ابنته حنان ، عذراء القبور .
انتهت