§§][][ عكرمة بن أبي جهل الراكب المهاجر ][][§§
هو عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة القرشي
المخزومي وكنيته أبو عثمان ، كان في أواخر العقد الثالث
من عمره ، فسنه ما بين خمس وعشرين وثمان وعشرين سنة
يوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق ، وكان من
أكرم الناس حسبا ، وأكثرهم مالا، وأعزهم نسبا ، ومن الفرسان ،
وكان جديرا أن يسلم كما أسلم نظراؤه ، لولا عناد أبيه ، أبو جهل
زعيم الضلال ، وزعيم المناوأة والشرك ، وزعيم القسوة .
§§][][ دلالات قصته ][][§§
قصة عكرمة رضي الله عنه لها دلالات عظيمة ، ومن أبرز دلالاتها
أن أشد الناس عداوة إذا اهتدى إلى الله عز وجل يكون من أشد
الناس نصرة ، والمؤمن لا ييأس من أعداء الله ، مهما تكن العداوة
شديدة ، ومهما يكن البعد واسعا ، هذا العدو اللدود ، وهذا الخصم
العنيد ، وهذا المقاتل في سبيل الطاغوت إنسان لو اهتدى إلى
الله سبحانه وتعالى لصار أقرب الناس إليك ، حتى أن النبي صلى
الله عليه وسلم بحكمته البالغة ، ورحمته الواسعة ، وعطفه الشديد ،
وبعد نظره ، صنع من ألد أعدائه نصيرا وصحابيا ، مات في ساحات
الجهاد .
§§][][ عداءه للإسلام ][][§§
وجد عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه نفسه مدفوعا بحكم
زعامة أبيه إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبحكم
عداوة أبيه الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم وجد نفسه
منساقا إلى هذه العداوة ، وانطلاقا ممن حوله ناصب النبي
صلى الله عليه وسلم أشد العداوة ، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء ،
وصب على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرت به عين أبيه
لشدة ما نال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وما نكل بهم ، ولشدة ما ناصب النبي صلى الله عليه وسلم
من العداوة والبغضاء والتجريح و الطعن ، و قاد أبوه معركة
الشرك يوم بدر ، وأقسم باللات والعزى ألا يعود إلى مكة إلا
بعد القضاء على الإسلام بهزيمة محمد صلى الله عليه وسلم .
لكن اللات والعزى لم يلبيان نداء أبي جهل ، لأنهما لا يسمعان ،
و خر أبو جهل الطاغية الكبير صريعا ، ورأى ابنه عكرمة رضي
الله عنه بعينه رماح المسلمين تنهل من دمه ، وسمعه بأذنيه
وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه .
وعاد عكرمة رضي الله عنه إلى مكة بعد أن خلف جثة سيد
كفار قريش في بدر ، فقد أعجزته الهزيمة أن يظفر بجثة أبيه
ليدفنها في مكة ، وتحولت إليه رئاسة بني مخزوم ، و لكن
بعد مقتل أبيه أخذ عكرمة رضي الله عنه موقفا آخر ، كان في
بادئ الأمر يعادي النبي صلى الله عليه وسلم حمية لأبيه ،
فأصبح يعاديه اليوم ثأرا لأبيه ، ومن هنا انبرى عكرمة رضي الله
عنه ونفر ممن قتل آباؤهم في بدر يؤججججججججججججون نار العداوة في
صدور المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، ويضرمون
جذوة الثأر في قلوب الموتورين من قريش ، حتى كانت موقعة أحد ،
فخرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد وأخرج معه زوجته أم حكيم
رضي الله عنها كي تكون الزوجة دافعا لزوجها في اقتحام الأخطار ،
ولإحراز النصر و لتقف مع النسوة الموتورات في بدر وراء الصفوف ،
وتضرب معهن على الدفوف ، تحريضا لقريش على القتال ، وتنديدا
لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار ، وجعلت قريش على ميمنة
الجيش خالد بن الوليد ، وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل ، رضي
الله عنهما وكان قائدا لامعا جدا ، وأبلى الفارسان المشركان
في ذلك اليوم بلاء رجح كفة قريش على محمد صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، الذين عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحقق
للمشركين النصر الكبير ، مما جعل أبا سفيان يقول :
هذا يوم بيوم بدر .
وفي يوم الخندق حاصر المشركون المدينة أياما طويلة ، فنفذ
صبر عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ، وضاق ذرعا من الحصار ،
ونظر إلى مكان ضيق من الخندق ، وأقحم جواده فاجتازه ، ثم
اجتازه وراءه بضعة نفر في أجرأ مغامرة ، ذهب ضحيتها عمرو
بن عبد ود العامري أما هو فلم ينج إلا بالفرار .
§§][][ الهروب ][][§§
في يوم الفتح رأت قريش ألا قبل لها بمحمد صلى الله عليه
وسلم وأصحابه ، فأجمعت على أن تخلي له السبيل إلى مكة ،
وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر قادته ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من
أهل مكة ، لكن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ونفر
ممن معه خرجوا على إجماع قريش ، وتصدوا للجيش الكبير ،
فهزمهم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، والذي أسلم قبل فتح
مكة بعام ، هزمهم في معركة صغيرة ، قتل فيها من قتل ،
ولاذ بالفرار من لاذ ، وكان في جملة الفارين عكرمة بي أبي
جهل رضي الله عنه ، ولقدكان عهد رسـول اللـه صلى اللـه عليه
وسلم إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة
ألا يقتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أن النبي صلى اللـه عليه وسلم
استثنى منهم نفرا سماهم بأسمائهم واحدا واحد ، وأمر بقتلهم ،
وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عكرمة رضي الله عنه
لشدة عداوته وشدة تنكيله بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وشدة كراهيته للإسلام ، لذلك تسلل متخفيا من مكة ، ويمم وجهه
شطر اليمن ، إذ لم يكن له ملاذ إلا هناك ، هرب من الجزيرة العربية
إلى اليمن في جنوبها .
§§][][ الأمان ][][§§
أم حكيم زوجته مضت مع هند بنت عتبة رضي الله عنهما إلى
منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما عشرة نسوة ليبايعن
النبي صلى الله عليه وسلم ، وقامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي
جهل رضي الله عنهما فأسلمت ، وقالت :
يا رسول الله ، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفا أن تقتله
فأمنه أمنك الله ، فقال صلى الله عليه وسلم :
" هو آمن "
فخرجت من ساعتها في طلبه حتى أدركت عكرمة رضي الله عنه
عند ساحل البحر في منطقة تهامة ، وهو يفاوض نوتيا ، والنوتي
هو الملاح صاحب السفينة ، وكان النوتي مسلم ويقول له :
أخلص حتى أنقلك
فقال عكرمة رضي الله عنه : وكيف أخلص حتى تنقلني؟
قال : تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
فقال عكرمة رضي الله عنه : ما هربت إلا منها
وفيما هو كذلك أقبلت أم حكيم على عكرمة رضي الله عنهما ،
وقالت : يا ابن عمي جئتك من عند أفضل الناس ، جئتك من عند خير
الناس ، جئتك من عند أبر الناس ، من عند محمد بن عبد الله عليه
الصلاة والسلام ، ولقد استأمنت لك منه ، وأمنك فلا تهلك نفسك
قال رضي الله عنه : أنت كلمتِه
قالت رضي الله عنها : نعم ، أنا كلمته ، وأمنك
وما زالت به تؤمنه ، وتطمئنه حتى عاد معها .
§§][][ إسلامه ][][§§
فلما دنا عكرمة رضي الله عنه من مكة قال صلى الله عليه وسلم
لأصحابه :
" سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه ،
فإن سب الميت يؤذي الحي ، ولا يبلغ الميت "
وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة رضي الله عنه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم
وثب إليه من غير رداء فرحا به ..فرحا بإسلامه .
ولما جلس صلى الله عليه وسلم وقف عكرمة رضي الله عنه بين
يديه ، وقال : يا محمد إن أم حكيم أخبرتني أنك أمنتي
فقال صلى الله عليه وسلم : " صدقت ، فأنت آمن "
قال عكرمة رضي الله عنه : إلام تدع يا محمد ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
" أدعوك إلى أن تشهد أنه لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ،
وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة "
حتى عد أركان الإسلام كلها
فقال عكرمة رضي الله عنه : والله يا رسول الله ما دعوت إلا إلى حق ،
وما أمرت إلا بخير ، ثم أردف يقول :
يا رسول الله ، قد كنت فينا والله قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه ،
وأنت أصدقنا حديثا ، وأبرنا برا ، ثم بسط يده ، وقال :
إني أشهد أنه لا إله إلا الله ، وأشهد أنك عبده ورسوله ، ثم قال :
يا رسول الله علمني خير شيء أقوله
فقال صلى الله عليه وسلم :
"قل أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله "
فقال عكرمة رضي الله عنه : ثم ماذا
فقال صلى الله عليه وسلم :
" تقول أشهِد الله ، وأشهِد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر "
فقال عكرمة رضي الله عنه ذلك ، عند هذا قال صلى الله عليه
وسلم : " اليوم لا تسألني شيئا أعطيه أحداً إلا أعطيك إياه "
ثم قال عكرمة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم :
يا رسول الله ، إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتك ،
أنا كنت عدوا لدودا لك ، أو كل مقام لقيتك فيه ، وكل كلام قلته
في وجهك ، أو في غيبتك ، فاستغفر لي الله عز وجل .
فقال صلى الله عليه وسلم :
" اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار به إلى موضع
يريد به إطفاء نورك ، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي ،
أو أنا غائب عنه "
فتهلل وجه عكرمة رضي الله عنه بشرا ، وقال :
أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصد عن سبيل
الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلته صدا عن سبيل
الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله .
ومنذ ذلك اليوم انضم عكرمة رضي الله عنه إلى موكب الدعوة فارسا
باسلا في ساحات القتال ، وعابدا قواما قراء لكتاب الله في المساجد ،
فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول :
كتاب ربي ، كلام ربي ، وهو يبكي من خشية ربه .
قال ابن أبي مليكة :
كان عكرمة إذا اجتهد في اليمين قال : لا والذي نجاني يوم بدر .
§§][][ المنام ][][§§
قيل أن رسـول اللـه صلى اللـه عليه وسلم قد رأى في منامه أنه
دخل الجنة ، فرأى فيها عذقا مذللا فأعجبه فقيل : لمن هذا ؟
فقيل : لأبي جهل
فشق ذلك عليه وقال : " ما لأبي جهل والجنة ؟ والله لا يدخلها أبدا "
فلما رأى عكرمة أتاه مسلما تأول ذلك العذق عكرمة بن أبي جهل .
§§][][ جهاده][][§§
ولقد شارك في حرب مسيلمة الكذاب ، ثم أرسله أبو بكر الصديق
رضي الله عنه لقتال المرتدين في عمان ومهرة اليمن فناجزهم
وانتصر عليهم وغنم منهم وقل خلقا من المشركين .
ثم جاء وقت البر بقسمه في معركة اليرموك أقبل عكرمة رضي
الله عنه على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم
الحار ، ولما اشتد القتال على المسلمين في أحد المواقف الصعبة
نزل عن جواده ، وكسر غمد سيفه ، وأوغل في صفوف الروم ،
فبادر إليه خالد رضي الله عنه ، وقال :
يا عكرمة لا تفعل ، فإن قتلَك سيكون شديدا على المسلمين
فبماذا أجابه ؟
قال له رضي الله عنه : إليك عني يا خالد ، لقد كان لك مع رسول
الله سابقة ، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على النبي صلى
الله عليه وسلم عداوة ، فدعني أكفر عما سلف مني.
ثم نادى في المسلمين : من يبايع على الموت ؟
فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور في أربعمائة من
المسلمين ، فقاتلوا دون فسطاط خالد بن الوليد رضي الله عنه أشد
القتال ، وذادوا عنه أكرم الذود ، ولما انجلت معركة اليرموك عن
ذلك النصر المؤزر للمسلمين ، كان يتمدد على أرض المعركة ثلاثة
مجاهدين أثخنتهم الجراح ، هم الحارث بن هشام ، وعياش بن أبي
ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم .
§§][][ قمة الإيثار قبل الشهادة ][][§§
الحارث دعا بماء ليشربه ،فلما قدم له نظر إليه عكرمة ، فقال :
ادفعوه إليه ، فلما قربوه إليه نظر إليه عياش، فقال :
ادفعوه إليه ، فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه ، فلما
عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد قضيا نحبهما ، لقد آثروا بعضهم ،
وهم على أرض المعركة في النزع الأخير ، رضي الله عنهم أجمعين ،
وسقاهم من حوض الكوثر شربة لا يظمؤون بعدها أبدا .