رد: جوانب من الحياة الشخصية والاجتماعية لسيف الله (خالد بن الوليد)رضي الله عنه
علاقات خالد بن الوليد
علاقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف شخصية خالد، وما يتميز به من عقل بين فتيان قريش؛ ولذلك استغرب تأخُّره في الإسلام، وقد تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أمام أخيه الوليد بن الوليد - رضي الله عنه - الذي كان مسلمًا؛ لينقل الحديثَ إلى خالد، وكان مما نقله الوليد أن الرسول قال في عمرة القضاء: ((أين خالد؟))، فقلت: يأتي به الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما مثل خالد جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجدَّه على العدو، لكان خيرًا له، ولقدَّمناه على غيره))[61].
لقد كانت معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخصائص خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وثناؤه على عقله، دافعًا له للبحث عن الإسلام والقناعة به بعد ذلك.
ثم بدأت العلاقة بين خالد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأخذ شكلاً مميزًا، يتضح ذلك من يوم إسلام خالد، فيقول في الرواية التي نقلت عنه: "عمدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيني أخي، فقال أسرع؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرك، فأسرعت المشي فطلعت، فما زال يتبسم لي - صلى الله عليه وسلم - حتى وقفت عليه، وسلَّمت عليه بالنبوة، فردَّ عليَّ السلام بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً، رجوتُ أن لا يسلمك إلاَّ إلى خير))، قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق، فادعُ الله يغفر لي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام يجبُّ ما كان قبله))، قلت: يا رسول الله على ذلك، فقال: ((اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك))"[62].
لقد كان خالد يحس من رسول الله عناية خاصة، حتى إنه قال: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما حزبه"[63].
لقد كان خالد منذ أسلم يعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لديه من مشكلات مختلفة؛ ليوجِّهه الوجهة الصحيحة، فقد كانت تعرض له بعض المشكلات النفسية التي عرضها على رسول الله، حيث كان يرى في منامه ما يروعه، فشكا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((قل: أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون))[64].
كما أن وجود أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي خالة لخالد - رضي الله عنه - مع وجود أم خالد حية تعيش في المدينة، جعل خالدًا ممن يدخلون كثيرًا بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخصوصًا حينما يكون في حجرة خالته ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - ودلتْ أحاديثُ كثيرة على مشاركة خالد الطعامَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت الرسول، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس: "أن خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله، أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة - وهي خالته وخالة ابن عباس - فوجد عندها ضبًّا مَحْنُوذًا، قد قدمتْ به أختُها حُفيدةُ بنتُ الحارث من نجد، فقدَّمت الضبَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدَّث به ويسمَّى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبِرْنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قدمتنَّ له، فقلن: هو الضبُّ يا رسول الله، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرامٌ الضبُّ يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه))، قال خالد: فاجتررتُه فأكلته ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليَّ"[65].
كما وردت أخبار أخرى في هذا الجانب، منها ما رواه الترمذي من حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنه - قال: "دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتْنا بإناء فيه لبن، فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على يمينه، وخالد على شماله، فقال لي: الشربة لك، فإن شئتَ آثرت بها خالدًا، فقلت: ما كنت أوثر على سؤرك[66]..." الحديث[67].
وكذلك مما يدل على قوة علاقة خالد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ورد من كثرة استشارة خالد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور الأسرة، ليس من باب الفتوى فقط؛ بل من أبواب الشكوى والإصلاح، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سلمة: "أن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، أخبرتْه أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمن، فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة، فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ، فأتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته..." الحديث[68].
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حَسَنَ الظن بخالد بن الوليد، فقد روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبدالمطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبدالمطلب، فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي عليه صدقة ومثلها معها))[69].
ومع حسن تعامُل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد، فقد كان يؤدِّبه ويوجِّهه عند الحاجة، ويذكِّره بفضل الصحابة الذين سبقوه في الإسلام، فقد روى مسلم: "أنه كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه))[70].
كما روى أحمد عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قال: "كان بيني وبين عمار بن ياسر كلامٌ، فأغلظت له في القول، فانطلق عمار يشكوني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء خالد وهو يشكوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فجعل يغلظ له، ولا يزيد إلا غلظة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم، فبكى عمار وقال: يا رسول، ألا تراه؟ فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه قال: ((من عادى عمارًا عاداه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله))، قال خالد: فخرجتُ، فما كان شيء أحب إلي من رضا عمارٍ، فلقيتُه فرَضِيَ"[71].
ومع هذا التوجيه والتأديب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - فقد كان يمنع من الإساءة إليه، روى مسلم في صحيحه قال: "قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سَلَبَه، فمنعه خالد بن الوليد وكان واليًا عليهم، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عوفُ بن مالك فأخبره، فقال لخالد: ((ما منعك أن تعطيه سلبه؟))، قال: استكثرتُه يا رسول الله، قال: ((ادفعه إليه))، فمر خالد بعوف فجرَّ بردائه، ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرتُ لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاستُغضب، فقال: ((لا تُعطِه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مَثَلُكم ومثَلهم كمثَل رجلٍ استُرعي إبلاً أو غنمًا فرعاها، ثم تحيَّن سقيَها فأوردها حوضًا، فشرعتْ فيه، فشربتْ صفوَه، وتركتْ كدَرَه، فصفوُه لكم، وكدرُه عليهم))[72].
وقد وضع البخاري في صحيحه بابًا سماه: باب مناقب خالد بن الوليد - رضي الله عنه[73].
كما أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خالد بن الوليد فيما رواه الترمذي، الذي وضع بابًا خاصًّا في مناقب خالد بن الوليد - رضي الله عنه - روى فيه عن أبي هريرة قال: "نزلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فجعل الناس يمرُّون، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من هذا يا أبا هريرة؟))، فأقول: فلان، فيقول: ((نِعْمَ عبدُ الله هذا))، ويقول: ((من هذا؟))، فأقول: فلان، فيقول: ((بئس عبدُ الله هذا))، حتى مرَّ خالدُ بن الوليد، فقال: ((من هذا؟))، فقلت: هذا خالد بن الوليد، فقال: ((نعم عبدالله خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله))[74].
وقد روى الإمام أحمد: "أن أبا بكرٍ - رضي الله عنه - عقد لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - على قتال أهل الردة، وقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نِعْمَ عبدُ الله وأخو العشيرة خالدُ بن الوليد، وسيف من سيوف الله سلَّه الله - عز وجل - على الكفار والمنافقين))[75].
وقد كان خالد - رضي الله عنه - مستعدًّا لتنفيذ ما يأمره به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عليًّا - رضي الله عنه - إلى اليمن، فبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذُهَيْبة، فقسمها بين الأربعة... فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدَعنا؟! قال: ((إنما أتألفهم))، فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال: اتقِ الله يا محمد، فقال: ((من يطع الله إذا عصيت؟! أيأمنني الله على أهل الأرض، فلا تأمنوني؟!))، فسأله رجل: أقتلُه؟ - أحسبه خالد بن الوليد - فمنعه، فلما ولى، قال: ((إن من ضِئْضِئِ هذا - أو في عقب هذا - قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدَعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد))[76].
وقد استعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليد - رضي الله عنه - على قيادة جيوش من المسلمين في أكثر من مرة[77]، فقد "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أن يدخل من أعلى، فقُتل من خيل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يومئذٍ رجلان"[78].
وقد شارك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في غزوة حُنين، وأبلى فيها بلاء حسنًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقية أصحابه، وأصيب في هذه الغزوة ببعض الجراح، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبحث عنه، ففي رواية لأبي داود: "عن عبدالرحمن بن أزهر قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد".
وقد وضع البخاري في صحيحه بابًا سماه: باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة[79]، وروى "عن سالم عن أبيه، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسِنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيرَه، حتى إذا كان يومٌ أمر خالد أن يقتل كلُّ رجلٍ منا أسيرَه، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) مرتين"[80].
وقد كان بعد إسلامه في مقدمة الجيوش التي يغزو بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وردت أخبار تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في غزاة على مقدمته خالد بن الوليد[81]، كما روى البخاري في صحيحه عن البراء بن مالك - رضي الله عنه - قال: "بعثَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى اليمن قال: ثم بعث عليًّا بعد ذلك مكانه"[82].
وقد كان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أحد قواد النبي في غزوة تبوك، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأُخذ، فأتوه به، فحقن له دمه، وصالَحه على الجزية"[83].
وفي حجة الوداع حينما حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه، خص خالدَ بن الوليد - رضي الله عنه - بشيءٍ من شعره، فأعطاه ناصيته، وقيل: إنهم ابتدروا شعره - صلى الله عليه وسلم - فأخذ خالد ناصيته، فجعلها في قلنسوته[84]؛ تبركًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -[85].
وقد كان خالد - رضي الله عنه - يعيش في مجتمع المدينة بعد هجرته إليها كأي فرد من المسلمين، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويتأثر بما فيه من أحداث كأي فرد من المسلمين.
وكان يشارك المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطهير المجتمع من المعاصي، وقد وردت العديد من النصوص التي تثبت مشاركة خالد في تنفيذ الحدود الشرعية على مستحقيها، فقد روى مسلم في صحيحه أن المرأة الغامدية التي زنتْ، بعد أن ولدت: "أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه))، فلما فطمتْه أتتْه بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا - يا نبي الله - قد فطمتُه وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيُقبِل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضَّح الدمُ على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سبَّه إياها، فقال: ((مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ، لغفر له))، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودفنت"[86].
وقد روى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أورد بعضًا منها الإمامُ أحمد في مسنده في (باب حديث خالد بن الوليد)[87]، كما روى عن خالد جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: (عبدالله بن عباس، وجبر بن عبدالله، وقيس بن أبي حازم، وأبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب، ومالك بن الأشتر النخعي، وأبو عبدالله الأشعري، واليسع بن المغيرة المخزومي)[88].
يتبع