الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
تتميز شخصية المسلم بأنها شخصية جامعة لكل خصال الخير، فهي مؤمنة عالمة، قوية، شجاعة، متجردة، صبورة، مجاهدة، رحيمة، حريصة على كل ما ينفعها، مستعينة بالله -تعالى-، غير عاجزة ولا كسولة.. وهلم جرا..
وإنّ من محاسن هذه الشريعة المطهرة: مراعاة جانب بركة البكور في مواضع كثيرة من أحكامها:
منها: البكور في المحافظة على الجانب العبادي كالصلوات وغيرها.
ومنها: البكور في المحافظة على الجانب العلمي كطلب العلم وتحصيله وقراءة القرآن والأذكار.
ومنها: البكور في المحافظة على جانب المعاملات الأخلاقية كالبيع والشراء وغيرهما.
ومنها: التنصيص والدعاء لهذه الأمة في بكورها لنيل خيري الدنيا والآخرة.
فهذه المواطن وغيرها في الشريعة المطهرة توحي بأهمية بركة البكور لما فيه من إقامة الدين والدنيا، ولأن أعمار هذه الأمة المحمدية الإسلامية تتراوح بين الستين إلى السبعين، فحرصت الشريعة على إشغال هذا الجانب المهم في شخصية المسلم؛ ليأخذ بجانب الأهم فالمهم حسبما يوفق له من أعمال الخير والصلاح في الدنيا والآخرة.
أهمية بركة البكور:
1- أنها سبب في سعادة العبد في الدنيا والآخرة..
قال العلامة ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:
(لما سمع القوم قول الله -عز وجل-: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (48) سورة المائدة، وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (21) سورة الحديد، فهموا أن المراد من ذلك: أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية.. فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، ثم جاء من بعدهم قوم فعكسوا الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنيئة وحظوظها الفانية) (لطائف المعارف).
2- أنها سبب لاغتنام الأوقات وعدم تضييعها:
قال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال الصالحة: فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل".(رواه مسلم)وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". (رواه البخاري).
ثانياً: مواضع ومواطن البكور وفضائلها في الإسلام.. أهمها:
1- الدعاء لهذه الأمة بالبركة في بكورها:
كما في حديث صخر بن وداعة الغامدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"(أبو داود وصححه الألباني). وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله).
2- المحافظة على الصلوات في جماعة:
قال -تعالى-: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (238) سورة البقرة.
وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها".(البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"أثقل الصلاة على المنافق العشاء والفجر". (البخاري).
وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ودنا من الإمام فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير".(صحيح الترغيب).
3- التبكير في قراءة القرآن العظيم وحفظه:
قال -تعالى-: {..وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (78) سورة الإسراء. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (17) سورة القمر.قال ابن سعدي -رحمه الله-: ( وقرآن الفجر) أي صلاة الفجر، وسميت قرآناً لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها، ولفضل القراءة فيها، حيث شهدها الله وملائكة الليل والنهار).
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمدٍ بيده لهو أشد تفلّتاً من الإبل في عقلها".(البخاري ومسلم).وأفضل مراجعة ومعاهدة للقرآن في الأوقات التي يسودها الهدوء والراحة التامة، وأجلُّ ذلك في الأسحار إلى أول النهار، وهو البكور الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب الله له كأنما قرأه من الليل".(مسلم).
4-التبكير والحرص والمواظبة على أذكار اليوم والليلة:
قال -تعالى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (152) سورة البقرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: "سيروا، هذا جمدان، سبق المفرِّدون". قيل: وما المفردون يا رسول الله ؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات".(مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله".(صحيح الجامع).
ومما يدل على الاهتمام والحرص على المبادرة في اغتنام الأوقات في الخيرات من السنّة أيضاً جميع الأذكار والأقوال الواردة في الصباح وعند الاستيقاظ من النوم.
5- التبكير في تلقي العلم وتحصيله:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".(ابن ماجة وغيره، وصححه الأباني).وقال مسلم -رحمه الله- في صحيحه: قال يحي بن أبي كثير: (لا يُنال العلم براحة الجسد).
قال الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجـود يفقر والإقـدام قتّال
قال ابن القيم -رحمه الله-: (لا ينال العلم إلا بهجر اللذات، وتطليق الراحة، قال إبراهيم الحربي: أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة، فما لصاحب اللذات، وما لدرجة ورثة الأنبياء!!).(مفتاح دار السعادة).
قال ابن المديني -رحمه الله-: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟
قال: بنفي الاعتماد (أي الاعتماد على الغير)، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب).
من خلال هذا العرض الأخير لهذا البحث يثبت لنا: أن في البكور بركة وزيادة ونماء لخيري الدنيا والآخرة، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يحشد همته ويقوي إرادته للمسابقة لفعل الأعمال الصالحة في كل الأوقات، وخاصة في بداية النهار، وهو أول الفجر لصلاتها وقراءة القرآن بعدها وقراءة الأذكار، ثم التوجه لبقية الأعمال الدنيوية والدينية النافعة له في معاشه ومعاده. ونختم هذا البحث بقول ابن القيم-رحمه الله-:
(ونوم الصبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفساده للعضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسراً وعِيّاً وضعفاً...).
والحمد لله رب العالمين.