رد: حنان..
في الكلية بدأت حنان تستعيد حيويتها ونشاطها. الجميع شهد لها بتفوقها وذكائها. كان لأدبها الجم وإصرارها وطموحها الأثر الطيب في استقطاب اهتمام الجميع. أكثر من اهتم بها بروفسور أمريكي من أصل فلسطيني. حدّث إدارة الكلية لتوفر لها عاملة تساعدها على التنقل في الكلية بسهولة وشرح وضعها لهم. كان يطمئن على مستواها الدراسي عاماً بعد عام حتى أنه رشحها للتدريس في الكلية بعد تخرجها أو ابتعاثها لإكمال دراستها في الخارج. كان دائما ما يردد للطالبات أن حنان ابنته التي ليست من صلبه!
خرجت من المستشفى على أمل أن أجد متبرعاً ينقذني من آلامي. ينقذني من الغسيل الذي لم أعد أطيقه أياماً معدودة.
لبى جميع أبنائي دعوة ابنتي حنان وجاؤوا حاملين هداياهم وورودهم. كان الجميع سعيداً بخروجي لكن حين صارحتهم أختهم بحاجتي إلى من يتبرع لي بكلية انسحبوا الواحد تلو الآخر خوفاً أن نطلب من أحدهم الخضوع للتحاليل ويكون صاحب الكلية المطلوبة!
ترددت على المستشفى شهراً كاملاً. كانت حالتي تتدهور رغم أني لم أفوت موعداً من مواعيد الغسيل حتى سقطت مغشياً علي بعد أن داهمتني نوبة ألم حادة!!
- ألم تجدوا لها متبرعاً!
- للأسف لم نجد أحداً.
- لا أخفي عليكِ حالة والدتك تسوء يوماً بعد يوم.
- إذن دعني أخضع للفحوصات. من يعلم! قد أتمكن من مساعدتها.
- جسمكِ وبنيتك ضعيفة جداً.
- لا يهم. المهم الآن أن تعود أمي بخير مثلما كانت.
** ** ** **
أنهت حنان جميع الفحوصات، وكانت المفاجأة! إنها تحمل الكلية المناسبة. قبل دخولي غرفة العمليات بكيت. لم تكن دموعي على ابنتي التي ستضحي بكليتها من أجلي لأعيش. كنت أبكي على أبنائي الآخرين الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال وأنا التي ضحيت بشباب عمري من أجلهم ولم أرفض لهم طلباً قط!!
أجريت العملية على يد جراح ماهر ومعروف. مكثت معي حنان ثلاثة أسابيع في المستشفى ثم خرجنا معاً. ظن الجميع في البداية أن العملية نجحت لكن بعد أسبوع بدأت أعاني من حمى شديدة وآلام مبرحة في جميع أجزاء جسمي. في طريقنا إلى المستشفى نهرت حنان وشتمتها لأنها السبب فيما يحدث لي. لم ترد. امتلأت عيناها بالدموع وبكت في صمت!
- ربما لم يتقبل جسمها الكلية المزروعة.
- والحل!
- البحث عن متبرع جديد وإجراء عملية جديدة أو ...
- أو ماذا!
- السفر إلى أحد المراكز المتخصصة في الخارج. تتوفر هناك العديد من سبل العلاج المتقدمة إلى جانب عقاقير جديدة تثبت مناعة الجسم مما يساهم في تقبل العضو المزروع.
سافرت تحت إلحاح حنان. سافرت بصحبة أحد أبنائي بعد أن وعدته بتكفل ثمن تذكرته وجميع مصاريف إقامته وعلاجي هناك.
في المركز المتخصص لم تكن حالتي صعبة أو مستحيلة. شاء الله أن أتجاوز محنتي ومشاكلي الصحية. شيئاً فشيئاً وبالعلاج المناسب الذي وصف لي بدأ جسمي يتقبل كلية ابنتي، وبدأت أستعيد توازني السابق. بعد انتهت فترة العلاج الطويلة استعدت تدريجياً مناعة جسمي التي افتقدتها لشهور خلت. سألنا الطبيب عن صاحب الكلية التي أحملها. أجابه ابني:
- إنها أختي يا دكتور.
- كم هي عظيمة!
لماذا كنت أكابر دائماً وأرفض الاعتراف بأن ابنتي حنان إنسانة عظيمة! لماذا حملتها وزر وفاة والدها وهو قدره المحتوم! حتى كلمة شكراً بخلت بها عليها بعد أن تبرعت لي بكليتها! ونعتها بأبشع الصفات بعد أن ظننت أن جسمي لم يتقبل كليتها. رغبت في الاتصال بها. رفض ابني غاضباً وقال: هي من يجب أن يتصل لتطمئن على صحتك.
في الطائرة كنت أخطط لإقامة حفل كبير بمناسبة تخرجها. سأخبرها أمام الجميع معزتها. سأبوح لها أخيراً بأنها غالية. أجل غالية وأغلى من الكلية التي أهدتني إياها. في مطار دبي وتحديداً في السوق الحرة وقفت قليلاً وانتقيت هدية ثمينة لحنان ستسعد بها. شعرت بتأنيب الضمير لأنها ستكون هديتي الأولى لابنتي المقعدة!
في المطار توقعت أن تكون في استقبالي مع بقية إخوتها لكنها لم تكن بينهم.
- أين حنان!
- حنان رفضت المجيء. تمارضت حين رأتنا سنذهب جميعا في سيارة واحدة.
لم أغضب لما سمعت. قلبي رفض هذه المرة أن يغضب عليها، وأنا من كنت أتصيد لها أي خطأ أو زلة!
** ** ** **
استقبلتني حنان على كرسيها المتحرك عند مدخل البيت. كانت شاحبة اللون. دائرة من السواد أحاطت عينيها. مدّت يدها لتسلم علي. حاولت أن أضمها لكنها صدت برأسها ومنعتني بيدها. ردّت عليّ متوسلةً:
- أمي لا تقتربي منّي أكثر. أنا مريضة وأخاف أن أعديكِ.
طلبت من الخادمة أن تترك الكرسي. أمسكته وأدخلتها إلى البيت.
- منذ متى وأنتِ مريضة!
- منذ رحيلك يا أمي.
- هل ذهبتي إلى المستشفى!
- لا.
- لماذا!
- أنسيتي أني أؤدي امتحاناتي النهائية في الكلية!
خلدت إلى النوم واستيقظت على طرقات الباب. كانت الخادمة. أخبرتني أن حنان تعبة جداً. رغبت في أخذها إلى المستشفى لكنها رفضت. لم تتمكن ابنتي من النوم طوال الليل. كانت تشعر ببرودة تسري في جسدها الضعيف، وقمت بإدخالها الحمام أكثر من مرة. عند الفجر بدأت ابنتي تصاب بتشنجات غريبة!!
** ** ** **
يتبع