رد: الدرّ المكنون من سورة الماعون
الفائدة الأولى: تقرير المعاد وأثر الإيمان به على السلوك.
اتفقت الرسل والكتب كلها على تقرير "التوحيد" وهو إفراد الحق تبارك وتعالى بالعبادة دون سواه من الآلهة الباطلة, وعلى تقرير "الرسالة" وهي إفراد رسل الحق صلى الله عليهم وسلم بالاتباع, وعلى تقرير "المعاد" وهو الإيمان باليوم الآخر.[7]
والإيمان باليوم الآخر أوجبه القرآن الكريم ودل عليه دلالة قاطعة, فهو كله مملوء بذكر أحواله وتفاصيله, وردَّ على منكريه بأساليب متنوعة
وطرائق متعددة منها[8]:
- إخبار العليم الخبير به وهو أصدق القائلين, قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا.﴾ [النساء/88].
- التذكير بالنشأة الأولى وأنّ الذي أوجدهم أول مرة ولم يكونوا شيئا
لا بد أنّ يعيدهم, قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.﴾ [الروم/27].
- الإعلام على عظيم قدرة الله وسعة علمه وكمال حكمته المقتضية عدم ترك المكلفين بلا حساب ولا ثواب, فلا بد إذن من وجود يوم يقعان فيه وهو اليوم الآخر.
- إحياء الله للأرض الهامدة بعد موتها, قال الله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.﴾ [الروم/50], وإحياؤه لبعض الأموات في الدنيا كما ذكر عن صاحب البقرة, قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.﴾ [البقرة/73], وكذلك الذي مرّ على قرية وهي خالية, قال الله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.﴾ [البقرة/259], وذكر قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الطيور فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.﴾ [البقرة/260]، وقال الله تعالى عن إحياء عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم للأموات: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ.﴾ [آل عمران/49]، ونظائر هذه الأدلة كثيرة في القرآن الكريم.
واعلم أنّ المضيِّع للإيمان باليوم الآخر لا يعمل شيئا لله, كما قال الله تعالى: ﴿أََرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ: فَذَلِكَ...﴾ فجعل التكذيب بالدين في الآية الأولى سببا للتفريط في العمل الصالح المذكور بعدها, لأنّ المكذّب لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا؛ وإن قام بالأعمال الصالحات فرياءً وسمعةً لا إيمانًا وإخلاصًا, ويشهد لهذا حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : هشام بن المغيرة كان يَصِلُ الرحم ويَقرِي الضيف ويفكُّ العُنَاة [أي الأسرى] ويُطعم الطعام ، ولو أدرك أسلم ، هل ذلك نافعه ؟ قال : " لا ، إنه كان يعطي للدنيا وذِكرِها وحمدِها ، ولم يقل يوما قط : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".[9]
الفائدة الثانية: تقسيم العبادة إلى: أداء حق الخالق وأداء حق المخلوق[10].
لما كان الناس كثيرا ما تتجه فهومُهم لـ"العبادة" إلى أداء حق الله فقط: قسّمت هذه السورة العبادة إلى قسمين: أداء حق الله وأداء حق المخلوق، وهما: تقوى الله والإحسان إلى خلقه, وبيان هذه القسمة ضروريّ فالعبد إذا ما هُدي إلى أداء حق الله بتقواه وأداء حق خلقه بالإحسان إليهم فاز بجنات النعيم خالدا فيها, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناسَ الجنة ؟ فقال: "أكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق، وأكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج".[11] أمّا إذا قَصَر العبادةَ على حق الله فقط ولم يوفِّ حق خلقه كان يومَ الحساب -يوم لا ينفع مال ولا بنون- من المفلسين، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ, فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ, وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا, فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ." بل قد يتجاوز الله عمن قصَّر في حقه إذا أحسن إلى الخلق, فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا, فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ.
فالتكذيبُ بيوم الدين والتفريط في إقامة الصلاة على وجهها المفروض -في السورة- ينافي أداء حق الله وتقواه, وقد قال الله في صفات المتقين: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾ [البقرة: 2-3].
وأما حق المخلوق فقد جاء في السورة الإشارة إليه بذمّ ترك رحمة اليتيم وقسوة القلب عليه ودفعه بعنف وشدة, وترك التواصي بإطعام المسكين, ومنع الناس من الأمور الخفيفة التي لا يضره إعطاؤها على وجه العارية أو الهبة مما جرت العادة ببذله وهذا كله ينافي الإحسان إلى الخلق .