ما إن تطل العطلة الصيفية برأسها حتى تلقي بظلالها على جدول أعمال العائلات، فالأبناء وقد انتهوا من عام دراسي طويل ينتظرون المكافأة من أبيهم الذي يتمنى أن يجد بدوره في الأجازة ما يجدد نشاطه ويزيح عنه عناء عام طويل من العمل المتواصل ، أما الأم فهي الجندي المجهول وصاحبة العطاء الأكبر ومن ثم لا تقل توقعاتها عن توقعات الأبناء والزوج.
وبين الأماني والأمنيات تأتي الرحلات العائلية كبيت القصيد، إذ يكاد يكون هناك إجماع على أن تلك الرحلات هي الجائزة التي ينتظرها الجميع، قد تختلف وجهات تلك الرحلات وأهدافها ولكن كل يبحث فيها عن مبتغاه.
الرحلة العائلية الناجحة هي تلك التي تبدأ قبل أن تبدأ، أي تلك التي تخطط لها العائلة وتتفق على جدولها ووجهتها وتستهدف منها تحقيق أهداف تربوية وترفيهية وثقافية.
أما الرحلات العائلية العشوائية فهي تربك الأسرة اجتماعيًا وماليًا دون أن تحقق فائدة، ولذلك من الأهمية بمكان أن يجتمع أفراد الأسرة ويحددوا مدة الرحلة ووجهتها وبرنامجها وتوزيع الأدوار خلالها، وبذلك تتحول الرحلة إلى نوع من التدريب على تحمّل المسئولية والشورى العملية في الأسرة دون أن تفقد طابعها الترويحي.
غياب التخطيط للرحلة العائلية يحولها إلى موضوع خلاف بين أفراد الأسرة ابتداء من مدتها ومرورًا بوجهتها وانتهاء ببرنامجها، كثير من الأسر تشهد خلافًا بين الزوج وزوجته أو بينهما أو أحدهما وبين الأولاد حول هذا الموضوع فتتحول الرحلة العائلية من موضوع للتآلف والتواصل بين أفراد الأسرة إلى سبب للخلافات، وربما يقلل من الخلاف حول هذا الموضوع الاتفاق على مبادئ عامة حول الرحلة العائلية كتحديد بلدان لا ينبغي أن تكون مقصدًا للرحلة لأسباب شرعية، وتحديد سقف زمني لها لا تتجاوزه، وكذلك سقف مادي للإنفاق حتى لا تتحول الرحلة إلى أحد أسباب استنزاف ميزانية الأسرة، وتحديد بلد أو مكان جديد للرحلة كل عام.
أكثر من مجرد ترفيه:
أضحت الرحلات العائلية جزءًا من الحياة الاجتماعية لملايين الأسر، ولذلك ينبغي توظيفها فيما يتجاوز الترفيه إلى أهداف تربوية وتثقيفية، فالرحلة يمكن أن تكون نوعًا من التعليم الذاتي بزيارة الأماكن التاريخية ومعرفة ثقافات الشعوب وأساليب عيشها، بل إن اشتراك أفراد الأسرة في رحلة واحدة من شأنه أن يقوي العلاقات بينهم، فالوالد الذي يراه أبناؤه طوال العام مشغولاً في عمله سيقضي طوال أيام الرحلة مع أبنائه .
وفي الرحلة يمكن أن يتواصل أبناء العائلات الممتدة فيجتمع الأبناء وزوجاتهم وأبناؤهم مع والديهم، بل إن الرحلات العائلية فرصة لا تعوض لتحرير الأبناء من الإنترنت والتلفاز، فيتقارب الآباء والأبناء أكثر، ويمكن أن تكون الرحلة مناسبة جيدة لتعويد الأبناء الصغار على تحمل المسئولية، وذلك بتكليفهم ببعض الأعمال وتنمية مداركهم وتوسيع خبراتهم، ولفت انتباههم إلى عظمة الله وقدرته عند زيارة الأماكن الغريبة، وعند زيارة المنتزهات والحدائق العامة يجب إلزامهم بتحري النظام والنظافة والسلوك المهذب، وعند زيارة بعض البلدان الفقيرة يمكن اصطحاب الأبناء إلى المناطق الفقيرة ولفت انتباههم إلى المقارنة بين حالهم وحال سكان هذه المناطق ليستحضروا نعمة الله عليهم ويتعلموا القناعة والرضا.
ضرورة أم إسراف:
(أم غيداء) تعتبر الرحلة العائلية في بعض الأحيان ضرورة لأفراد الأسرة، وفي أحيان أخرى تعد إسرافًا وهدرًا للوقت والمال والغفلة عن فرائض الله؛ فالرحلة يمكن أن تبرز روح التعاون بين أفراد الأسرة بتبادل الأدوار والمهام فيما بينهم، ويمكن أن تكون مصدر تثقيف بزيارة الأماكن الجميلة والمناظر الخلابة والمتاحف.
ولا تخلو الرحلة من الفائدة كمعرفة معلومات جديدة وانشراح صدر وتقارب بين الأفراد.
ولصداقة الآباء مع أبنائهم أثر في إبهاج الرحلة، إذ تقوى فيما بينهم أواصر المتعة مما يبدد روح الأنانية وحب الذات، فالسفر مع العائلة فرصة ليتواصل الآباء المشغولين مع أبنائهم ويكشفوا دواخلهم ليتحسسوا همومهم وأوجاعهم.
(خالد الخليوي) ينتقد بعض الآباء خلال الرحلات العائلية؛ فالواحد منهم لا يعرف أهله إلا في الذهاب والإياب ويعطيهم الحرية التامة لقضاء الوقت ليهرب إلى مآربه الخاصة، والرحلات العائلية ليست أمرًا ضروريًا ولا هي مجرد ترف، ولكنها من البرامج المهمة في إنجاح الحياة العائلية وإدخال السرور والفرح على القلوب والأرواح، ومن ثم تجديد الحياة والنشاط لتلك الأسرة، لذا ينبغي للجميع المشاركة في اقتراح الرحلة وتحديد وجهتها وبرنامجها.
التخطيط الجيد
ويبدأ تخطيط الرحلة بأن يعلن أحد أعمدة البيت (الأب أو الأم مثلاً) فكرة هذا المشروع الاجتماعي الترويحي، وكذلك يعلن للجميع من صغار وكبار ذكور وإناث استقبال اقتراحاتهم من حيث جهة السفر وموعدها ومدتها ومعرفة الخطوط العريضة لبرنامج الرحلة.
وبعد جمع هذه الاقتراحات تأتي المناقشة الخاصة بين الأم والأب لتحديد ما وقع عليه الاختيار مراعين في ذلك ظروف العائلة (الدراسية، المادية، الاجتماعية...).
وتكون الرحلة مصدر تثقيف وتوعية من خلال مجموعة نقاط:
- إجراء المسابقات المتنوعة التي يفترض أن تكون قد أعدت من قبل.
- تحضير بعض الخواطر العلمية المتنوعة والمختصرة التي يمكن أن تقرأ بين الحين والآخر وخاصة بعد الصلوات.
- أن يُظهر الأبوان بعض الآداب والقيم التي يكون عليها المسلم أثناء سفره (كترك المكان نظيفًا والحفاظ على ممتلكات الآخرين).
أما من ناحية إبراز روح التعاون بين أفراد الأسرة فهذا يختلف باختلاف أفراد العائلة، فالسفر امتحان لما تعلموه في الحضر، فمن كانوا كسالى في بيوتهم اتكاليين في قضاء حوائجهم يرمون بكل شيء على الأب أو على أحد الأولاد، فهؤلاء لا شك في إخفاق رحلتهم وفشلهم في تحقيق أهدافها؛ لأن من أعظم أسس النجاح سيادة روح التعاون والتنافس.
وحتى لا تتحول الرحلة العائلية إلى مجرد تسلية وترفيه يمكن للآباء والأمهات مراعاة الجوانب التالية:
· - مشاركة الأبناء في وضع برنامج للرحلة لتعويدهم على التخطيط المسبق .
- الحرص على الصلاة في أوقاتها مع الجماعة أثناء الرحلة لكي يتعلم الأبناء أن المتعة الحلال لا تعني إهمال الفروض الدينية.
- بعد إتمام الرحلة يجب إشراك الأبناء في تقييمها وتحديد الإيجابيات والسلبيات، فمن شأن ذلك أن يعلم الأبناء مفهوم تصحيح الأخطاء.
الرحلات العائلية ضرورة للترابط الأسري:
تذهب الدكتورة مريم راشد التميمي - الأستاذة المساعدة في قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب للبنات بالدمام - إلى أن الرحلات العائلية تزيد من حجم الترابط العائلي وتقوي أواصره.. لاسيما مع هيمنة الطابع العملي على حياة الأسرة والانشغال بأعباء الدراسة والعمل..
وتقول: إن طبيعة الحياة العصرية وإيقاعاتها المشحونة بجو العمل باتت تحتم الاهتمام بتنظيم تلك الرحلات العائلية التي تزيد من تمتين الأواصر الأسرية وتغلفها بروح اجتماعية محببة إلى النفس.
وتنصح الدكتورة مريم التميمي بضرورة استثمار تلك الرحلات فيما يعين على التقرب من الله عز وجل واستغلال الفرصة المتاحة عبر تلك الرحلات في أداء عبادة عظمية هي عبادة التأمل، داعية الآباء والأمهات أن يعوا أهمية ربط الطفل بما يشاهده في الكون الفسيح وفضاءاته الواسعة بالإيمان بالله عز وجل عبر التأمل في ملكوت الله والشعور بعظمة الخالق، كما تحذر من اقتراف المحظورات والآثام عبر تلك الرحلات، وكذلك ارتياد المناطق والدول التي تشيع فيها المنكرات والمعاصي؛ لأن ذلك يضعف حصانة الفرد الداخلية ويسهل وقوعه في منزلقات الشرور والمعاصي.
منقول للعلم