كان النبيل النمساوي كارل فرود شتاين Carl Frode Stein واحدًا من نبلاء وعظماء الإمبراطورية النمساوية، الذين ورثوا ضياعًا شاسعة، وثروات طائلة، وامتيازات تمنحهم سلطات لا حدود لها على رعاياهم، ومكانة مرموقة عند حكام البلاد، وكان يمتلك في إقليم (التيرول) في أوائل القرن العشرين قصرًا ضخمًا يضم 88 قاعة كبيرة، ويتوسط مزارعه التي ورثها عن آبائه، والتي كان يديرها بجدارة تُعَدّ مضرب الأمثال؛ حتى حظي من الإمبراطور النمساوي بلقب (سيد إقليم التيرول)، وبفضل شجاعته النادرة وحسن بلائه في القتال باعتباره جنرالاً في سلاح المدفعية.
نال كارل فرود شتاين الكثير من الأوسمة والنياشين العسكرية الرفيعة، إضافةً إلى أنه كان يحمل نيشان (القديس جريجوريوس)، الذي منحه له بابا روما لخدماته الجليلة التي أداها للكنيسة الكاثوليكية في شبابه، خاصةً وساطته لتسوية الخلافات التي كانت تنشب من آنٍ لآخر بين الكرادلة النمساويين والفاتيكان؛ مما كان يستدعي سفره لمقابلة البابا وبطانته، فيعود كل مرة بالنجاح والتوفيق.
ومن أجل ذلك كانت المفاجأة المذهلة حقًّا لأقاربه ومعارفه ومواطنيه عندما أشهر إسلامه، فكان كصاعقة حلَّت بهم، حيث أقدم على تصفية أملاكه، ثم هجر موطن آبائه مضحيًا بكل أمجاده فيه؛ ليقيم في مجتمع إسلامي خالص، وقد اختار لإقامته بلاد الأفغان التي كانت -آنذاك- إحدى الدول الإسلامية القليلة التي تتمتع بالحرية والاستقلال التام، واختار لنفسه اسم يحيى؛ لإيمانه بأنه بعد إسلامه قد بُعث ليحيا من جديد، فاشتهر باسم يحيى بك.
قصة إسلام كارل فرود شتاين
بدأ قصته مع الإسلام عندما وقعت يده على نسخةٍ مترجمة إلى اللغة الألمانية من القرآن الكريم في المكتبة الضخمة التي ورثها عن أسلافه، وشرع بتصفحها، فأحسَّ بنشوة فائقة ومتعة روحية لا توصف، وعندما التحق بجامعة فيينا ليواصل دراسته العالية، أتيح له أن يختلط ببعض الطلاب المسلمين القادمين من البوسنة التابع للنمسا آنذاك، وراح يراقبهم عن كثب، فأعجب بصفاتهم وأخلاقهم الحميدة، وأحسَّ بانجذابه نحوهم.
ولما كان الإسلام من الديانات غير المعترف بها في النمسا، فقد شعر الطلاب بالتشتت لعدم وجود رابطة تضمهم؛ فلجئوا إلى الشيخ (حافظ عبد الله كوريجو فيتش)، الذي كان إمامًا للجنود البوسنيين المعسكرين في فيينا، وعهدوا إليه برئاسة جاليتهم وتكوين رابطة لهم، إلا أنه لم يلبث أن اعتذر عن قبول ذلك؛ لانشغاله بأعباء وظيفته. ولما كانوا يحسون بتعاطف فرود شتاين معهم وحبه لهم؛ ذهبوا إليه وطلبوا مساعدته في إيجاد رابطة تضمهم، فقَبِل اقتراحهم، وأنشأ الرابطة فعلاً، كما تولى رئاستها الشرفيَّة، على الرغم من أنه كان حتى ذلك الوقت مسيحيًّا وثيق الصلة بالأوساط الدينية!
وما كاد يذاع الخبر حتى دعاه وزير المعارف وسأله عن حقيقة ما علم، فأجابه بأنه من العار أن يكون بين أبناء النمسا رعايا مسلمون ولا تعترف الدولة بدينهم رسميًّا، فقال له الوزير: إن من أسباب تعذر الاعتراف بالإسلام رسميًّا أنه يبيح تعدد الزوجات. فأفهمه أن الإسلام لا يحتم هذا التعدد كفرض واجب على كل مسلم، ولكنه يترك الحرية لأتباعه في اختيار أكثر من زوجة بشروطٍ وقيود معينة، وما دام القانون النمساوي لا يسمح بأكثر من واحدة، فالنمساويون لا يسعهم إلا احترام هذا. فقال له الوزير: إذا كان الأمر كذلك، فإني أرجو أن تُعِدَّ لي مشروع قانون للاعتراف بالدين الإسلامي رسميًّا؛ كي أتقدم به إلى البرلمان.
فأعدَّ له المشروع وحمله إليه، فنُقِّح قليلاً، وعُرض على البرلمان الذي أجازه كما هو، وصار الدين الإسلامي منذ ذلك التاريخ 1908م من الأديان المعترف بها رسميًّا في الإمبراطورية النمساوية.
تكونت الرابطة الإسلامية للطلاب النمساويين، وتنحَّى فرود شتاين عن رئاستها لمن هو أهل لها من المسلمين، وما إن أتم دراسته العالية حتى قام برحلة طويلة إلى بلاد إفريقيا الشمالية، حيث درس الإسلام وأحوال المسلمين عن قرب.
وبينما هو يستعد لإشهار إسلامه على الملأ اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى 1914م، فاضطر أن يصحب فرقته إلى ميادين القتال، ثم أرسل إلى تركيا التي كانت تحالف النمسا لتدريب بعض فرق سلاح المدفعية بها، وهناك توثقت صلته بكثير من الضباط المسلمين، ثم عاد إلى ميناء (ريجا)؛ حيث أشهر إسلامه على الفور، وتزوَّج من فتاة شركسية مسلمة.
إسهامات كارل فرود شتاين
هاجر فرود شتاين إلى بلاد الأفغان حيث أهَّلته ثقافته العالية، وتجاربه العديدة، وإلمامه بلغات شتى؛ هي (الألمانية والفرنسية والتركية والروسية والهندية والعربية) على احتراف الصحافة والأدب، وراسل مجموعة من الصحف النمساوية والبولندية والهولندية وغيرها، وطاف في كثير من الدول الشرقية، وعلى الرغم من أنه خسر كل شيء، فإنه فاز بحرية فكره، واختياره للدين، الذي سيلقى عليه ربه
المصدر : كتاب ( عظماء أسلموا ) للدكتور راغب السرجاني