كان الشباب في مكة يلهون ويعبثون، أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعمل ولا يتكاسل؛ يرعى الأغنام طوال النهار، ويتأمل الكون ويفكر في خلق الله، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم -بعد أن أوتي النبوة- ذلك العمل، فقال: (ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم) فقال أصحابه: وأنت؟ قال: (نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة) [البخاري] وكان الله -سبحانه- يحرسه ويرعاه على الدوام؛ فذات يوم فكر أن يلهو كما يلهو الشباب، فطلب من صاحب له أن يحرس أغنامه، حتى ينزل مكة ويشارك الشباب في لهوهم، وعندما وصل إليها وجد حفل زواج، فوقف عنده، فسلط الله عليه النوم، ولم يستيقظ إلا في صباح اليوم التالي.
وعندما كانت قريش تجدد بناء الكعبة، كان محمد صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض، وجعل ينظر بعينيه إلى
السماء، ويقول: إزاري.. إزاري، فشد عليه، فما رؤى بعد ذلك عريانًا.
التاجر الأمين:
وحين جاوز النبي صلى الله عليه وسلم العشرين من عمره أُتيحت له فرصة السفر مع قافلة التجارة إلى الشام، ففي مكة كان الناس يستعدون لرحلة الصيف التجارية إلى الشام، وكل منهم يعد راحلته وبضاعته وأمواله، وكانت السيدة خديجة بنت خويلد -وهي من أشرف نساء قريش، وأكرمهن أخلاقًا، وأكثرهن مالا- تبحث عن رجل أمين يتاجر لها في مالها ويخرج به مع القوم، فسمعت عن محمد وأخلاقه العظيمة، ومكانته عند أهل مكة جميعًا ، واحترامهم له؛ لأنه صادق أمين، فاتفقت معه أن يتاجر لها مقابل مبلغ من المال، فوافق محمد صلى الله عليه وسلم وخرج مع غلام لها اسمه ميسرة إلى الشام.
تحركت القافلة في طريقها إلى الشام، وبعد أن قطع القوم المسافات
الطويلة نزلوا ليستريحوا بعض الوقت، وجلس محمد صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلى مقربة منه صومعة راهب، وما إن رأى الراهب محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى أخذ ينظر إليه ويطيل النظر، ثم سأل ميسرة: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من
أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وباعت القافلة كل تجارتها، واشترت ما تريد من البضائع، وكان ميسرة ينظر إلى محمد ويتعجب من سماحته وأخلاقه والربح الكبير الذي حققه في مال السيدة خديجة.
وفي طريق العودة حدث أمر عجيب، فقد كانت هناك غمامة في السماء تظل محمدًا وتقيه الحر، وكان ميسرة ينظر إلى ذلك المشهد، وقد بدت على وجهه علامات الدهشة والتعجب، وأخيرًا وصلت القافلة إلى مكة فخرج الناس لاستقبالها مشتاقين؛ كل منهم يريد الاطمئنان على أمواله، وما تحقق له
من ربح، وحكى ميسرة لسيدته خديجة ما رأى من أمر محمد، فقد أخبرها بما قاله الراهب، وبالغمامة التي كانت تظل محمدًا في الطريق؛ لتقيه من الحر دون سائر أفراد القافلة.
زواج محمد صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة:
استمعت السيدة خديجة إلى ميسرة في دهشة، وقد تأكدت من أمانة محمد
صلى الله عليه وسلم وحسن أخلاقه، فتمنت أن تتزوجه، فأرسلت السيدة خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه؛ لتعرض على محمد الزواج، فوافق محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الزواج، وكلم أعمامه، الذين رحبوا ووافقوا على هذا
الزواج، وساروا إلى السيدة خديجة يريدون خطبتها؛ فلما انتهوا إلى دار خويلد قام أبو طالب عم النبي وكفيله يخطُب خُطبة العرس، فقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا
آمنًا، وجعلنا أمناء بيته، وسُوَّاس حرمه، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفًا ونبلاً وفضلاً، وإن كان في المال قلا، فإن المال ظل زائل، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبأ
عظيم، وخطر جليل) وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة، وعاشا معًا حياة طيبة موفقة، ورزقهما الله تعالى البنين والبنات، فأنجبت له ستة أولاد هم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبدالله، والقاسم، وبه يكنى الرسول فيقال: أبو القاسم.
بناء الكعبة وقصة الحجر الأسود:
اجتمعت قريش لإعادة بناء الكعبة، وأثناء البناء اختلفوا فيمن ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، واشتد الخلاف بينهم، وكاد أن يتحول إلى حرب بين قبائل قريش، ولكنهم تداركوا أمرهم، وارتضوا أن يُحكِّموا أول داخل عليهم وانتظر القوم، وكل واحد يسأل نفسه: ترى من سيأتي الآن؟ ولمن سيحكم؟ وفجأة تهللت وجوههم بالفرحة والسرور عندما رأوا محمدًا يقبل عليهم، فكل واحدٍ منهم يحبه ويثق في عدله وأمانته ورجاحة عقله وسداد رأيه، فهتفوا: هذا الأمين قد رضيناه حَكَما، وعرضوا عليه الأمر وطلبوا منه أن يحكم بينهم، فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر عليه، ثم أمر رؤساء القبائل فرفعوا الثوب حتى أوصلوا الحجر إلى مكانه من الكعبة، عندئذ حمله الرسول صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ووضعه مكانه، وهكذا كفاهم الله شر القتال.