قال الإمام النووي في كتابه "الأذكار": "اعلم أنه لكل مكلف أن يحفظ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركُه في المصلحة، فالسنة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء".
وفي القرآن الكريم قوله تعالى: {
والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون:3)، قيل من جملة ما قيل في معنى {اللغو} ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان:72). وقال تعالى محذراً من آفات اللسان: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:18)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر.
وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليصمت).
وفي "الصحيحين" قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وفيهما أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين فيها، يَزِلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
وروى الترمذي عن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال (املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك)، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعند الترمذي أيضاً من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما من شيء أحق بطول سجن من اللسان.
وذكر الإمام النووي في "أذكاره" أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا -وكانا من حكماء العرب- فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةَ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال: ما هي: قال: حفظ اللسان.
ومن آفات اللسان الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، وإثارة النزعات العنصرية، والقبلية، والطائفية، والعرقية، والإقليمية، التي تفرق وحدة المجتمع، وتوهن عضد الأمة.
ومن آفاته أيضاً الكذب، والتحديث بكل يُسمع، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم.
ومن آفاته الشماتة بالمسلم، واحتقاره، والسخرية منه، وشهادة الزور، والمـَنُّ بالعطية.
ومن أعظم آفات اللسان عامة، وفي شهر رمضان خاصة الغيبة، وهي كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه)؛ والغيبة تضر بالصيام، وقد حُكي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن الغيبة تفطر الصائم، وتوجب عليه القضاء، وأخذ بهذا القول بعض أهل العلم، كالإمام الأوزاعي، وابن حزم.
وسواء كانت غيبة الغير في دينه أو دنياه، وفي خَلْقه أو خُلُقه، أو ماله أو لده، أو زوجه، أو أي شيء يمت إليه بصلة، وسواء كانت باللفظ، أو بالإشارة، أو الرمز، فكل ذلك حرام في دين الله.
وعلى الجملة، فكل قدح في الغير مما يكرهه لا يحل، وهو من الغيبة، وهي درجات: فبعضها أعظم من بعض، بحسب من تُكِلِّم فيه منزلة، وبحسب الدافع لها، والحامل عليها، وبحسب المقالة التي قيلت فيه؛ فمن اغتاب إنساناً في دينه، فهذا أعظم من القدح في لون ثوبه، أو طريقة مشيه.
والعجب أن أمر الغيبة قد هان على كثير من الناس، وخف وقعها عليهم، حتى إن الكبير والصغير، والعالم والجاهل يعملها ويكررها، ولا يأنف، ولا يستنكف، ولا يتردد في أمرها.
فيتوجب على الصائم أن يحفظ صومه، وأن يتقي الله في لسانه وجوارحه كافة، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يكون حظه من صيامه الجوع والعطش، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).
ولأن اللسان خلق للكلام، فلا شيء يحمي من زللـه مثل إشغاله بالقول المعروف، والقول السديد، والقول الحسن، كالذكر، والقرآن، والتسبيح، والكلام الطيب مع الناس، كالثناء عليهم باعتدال، والدعاء لهم، وذكر محاسنهم، وتطيب نفوسهم، وتقديم الخبرة والمشورة والتجربة والنصيحة لهم، وما شاكل هذا من المعاني الخيرة، التي تعود على صاحبها بالنفع والخير، وعلى المجتمع بالتواصل والترابط. وقد قال تعالى: {وقولوا للناس حسنا} (البقرة:83)، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لو قال لي فرعون: بارك الله فيك. لقلت: وفيك)، رواه البخاري في "الأدب المفرد".