د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما تهل علينا أشهر الحج المباركة ونتذكر قول الله تعالى : \" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) سورة البقرة , وتهفو القلوب وتشتاق الأرواح إلى تلك البقة الطاهرة الطيبة , ونعيش مع الخليل إبراهيم عليه السلام حينما دعا ربه فقال : \" رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) سورة إبراهيم .
حينها تنزل الدموع وتسكب العبرات ,وتتقطع النفوس شوقا إلى مغفرة رب البريات , عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِى طَوِيلاً ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِى فَقَالَ « يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ. أخرجه ابن ماجه (2/982 ، رقم 2945) قال البوصيرى (3/193) : هذا إسناد ضعيف . والحاكم (1/624 ، رقم 1670) وقال : صحيح الإسناد . والبيهقى فى شعب الإيمان (3/456 ، رقم 4056) . وأخرجه أيضًا : عبد بن حميد (ص 245 ، رقم 760) ، وابن خزيمة (4/212 ، رقم 2712) .
قال أحمد شوقي :
إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ * * * عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ في عَرَفاتِ
وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِراً * * * وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَماتِ
عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ * * * تَزُفُّ تَحايا اللَهِ وَالبَرَكاتِ
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُم * * * لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافاً وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ * * * إِلَيكَ اِنتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ * * * لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ * * * وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ
عن سهل بن سعد الساعدي , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: ما من ملب يلبي , إلا لبى ما عن يمينه وشماله , من حجر , أو شجر , أو مدر , حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا. أخرجه ابن ماجة (2921) والتِّرْمِذِيّ\" 828 , انظر حديث رقم : 5770 في صحيح الجامع .
كان السلطان أبو الفتح ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان صاحب لهو وصيد وغفلة .. صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة ووقف يتأمل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام فرّق قلبه فنزل وسجد وعفر وجهه وبكى .
قال الشاعر :
تذكرت أيام الحجـيج فأَسْـبَلَتْ * * * جُـفُوني دماءً واستـجد بِيَ الوجدُ
وأيامنا بالـمَشْـعَرَيْنِ التي مضـتْ * * * وبالخَيْفِ إذ حادي الرِّكابِ بنا يحدو
فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟. هل رأيت لباساً قط أجْملُ وأجَلُّ من لباس الحُجَاجِ والمعتمرين؟.هل رأيت رؤوساً أعزُّ وأكرمُ من رؤوس المحلقين والمقصرين؟.هل مرّ بك رَكْبٌ أشرف من رَكْبِ الطائفين؟.هل هزَّك نَغَمٌ أروع من تلبية الملبين وأنين التائبين , وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟.
قال الإمام ابن القيم:
أما والذي حج المحبون بيته ***- ولبُّوا له عند المهلَّ وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً ***- لِعِزَّةِ من تعنو الوجوه وتُسلمُ
يُهلُّون بالبيداء لبيك ربَّنا ***- لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
دعاهم فلبَّوه رضاً ومحبةً ***- فلما دَعَوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنضاد شُعثاً رؤوسهم ***- وغُبراً وهم فيها أسرُّ وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ***- ولم يُثْنهم لذَّاتهم والتنعُّم
يسيرون من أقطارها وفجاجِها ***- رجالاً وركباناً ولله أسلموا
ولما رأتْ أبصارُهم بيته الذي ***- قلوبُ الورى شوقاً إليه تضرَّمُ
كأنهم لم يَنْصَبوا قطُّ قبله ***- لأنّ شقاهم قد تَرَحَّلَ عنهمُ
فلله كم من عبرةٍ مهراقةٍ ***- وأخرى على آثارها لا تقدمُ
وقد شَرقَتْ عينُ المحبَّ بدمعِها ***- فينظرُ من بين الدموع ويُسجمُ
وراحوا إلى التعريف يرجونَ رحمة ***- ومغفرةً ممن يجودَ ويكرمُ
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي ***- كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ
ويدنو به الجبار جلَّ جلاله ***- يُباهي بهم أملاكه فهو أكرمُ
يقولُ عبادي قد أتوني محبةً ***- وإني بهم برُّ أجود وأكرمُ
فأشهدُكم أني غفرتُ ذنوبهم ***- وأعطيتهم ما أمَّلوه وأنعمُ
فبُشراكُم يا أهل ذا الموقف الذي ***- به يغفرُ الله الذنوبَ ويرحمُ
فكم من عتيق فيه كُمَّل عتقُه ***- وآخر يستسعى وربُّكَ أكرمُ
إن قصص المشتاقين إلى البيت العتيق لهي أبلغ الآيات وأحكم العظات على أن تلك البقعة المباركة قد حباها الله تعالى وخصها بما لم يخص بها غيرها ؛ حيث جعلها مستقراً للقلوب والأرواح وموئلاً للنفوس في حضرة الملك القدوس , حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد ، عن أبيه ، أنه قال : « خرجنا من خراسان ومعنا امرأة ، فلما دخلت الحرم جعلت تقول : أين بيت ربي ؟ أين بيت ربي ؟ فقيل لها : الآن تأتين بيت ربك ، فلما دخلت المسجد قيل لها : هذا بيت ربك ، قال : فاستندت إلى البيت فوضعت خدها على البيت ، فما زالت تبكي حتى ماتت » أخبار مكة للفكهاني 1/244 .
قال ابن الأمير الصنعاني :
وما زال وفد الله يقصد مكة ***- إلى أن بدا البيت العتيق وركناه
فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا ***- وكبرت الحجاج حين رأيناه
وقد كادت الأرواح تزهق فرحة ***- لما نحن من عظم السرور وجدناه
تصافحنا الأملاك من كان راكبا ***- وتعتنق الماشي إذا تتلقاه
وسالت دموع من غمام جفوننا ***- على ما مضى من إثم ذنب كسبناه
ونحن ضيوف الله جئنا لبيته ***- نريد القرى نبغي من الله حسناه
فيا نعمة لله لسنا بشكرها ***- نقوم ولو ماء البحور مددناه
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه؛ فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي!! بيت ربي!! حتى وضعت جبهتها على البيت؛ فوالله ما رفعت إلا ميتة. (صفة الصفوة 2/529).
وقال وهيب بن الورد : « بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهى تقول : يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات يا رب سبحانك وعزتك إنك لأرحم الراحمين يا رب ما لك عقوبة إلا النار ، فقالت صاحبة لها كانت معها : يا أخية دخلت بيت ربك اليوم قالت : والله ما أرى هاتين القدمين وأشارت إلى قدميها أهلا للطواف حول بيت ربي فكيف أراهما أهلا أطأ بهما بيت ربي ؟ وقد علمت حيث مشتا وإلى أين مشتا ؟ » ابن أبي الدنيا : محاسبة النفس 43 .
ذكروا في التاريخ العربي أن البرعي في حجه الأخير أخذ محمولا على جمل فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي,وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة هب النسيم رطباً عليلاً معطرا برائحة الأماكن المقدسة فازداد شوقه للوصول لكن المرض أعاقه عن المأمول فأنشأ قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير .. يقول فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي ***- هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي ***- الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ ***- يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا ***- عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى ***- عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ ***- نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى ***- فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا ***- وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ ***- وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي بِهِمْ ***- فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا مِنِّي ***- السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُوا لَهُمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ ***- وَمُفَارِقُ الأَحْبَابِ وَالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى ***- مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَادِ
اللهم تقبل منا صالح أعمالنا ودعاءنا , وارزقنا حجة لبيتك الحرام , وارزقنا رؤية وجهك الكريم.