الإكثار من تلاوة القرآن وختمه في رمضان
الإكثار من تلاوة القرآن وختمه في رمضان
الإكثار من تلاوة القرآن وختمه في رمضان
محمد بن موسى الشريف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يتنافس الناس في رمضان [ ] في كثرة تلاوة القرآن وتعدد مرات ختمه، وهذا أمر حسن يثابون عليه إن شاء الله، لكن هل هو الأفضل في حقهم؟ وهل هو ما ينبغي عليهم أن يصنعوه في هذا الشهر الكريم؟
فأقول وبالله التوفيق: إنه في شهر رمضان [ ] الكريم يستحب الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، وهكذا كان السلف يصنعون، فقد كانت أحوالهم [ ] في قراءة القرآن الكريم [ ] عجيبة طوال السنة، ليس في رمضان [ ] فقط لكنهم إذا جاء رمضان [ ] يكثرون من التلاوة كثرة مضاعفة، فقد كانت عادة أكثر الصحابة [ ] -رضي الله عنهم- ختم القرآن كل أسبوع مرة، وبعضهم كل ثلاث ليال. وكانوا إذا جاء رمضان [ ] يقومون بالقرآن عامة ليلهم إلا قليلاً.
وعلى ذلك جرى التابعون -رحمهم الله- تعالى والسلف الصالح من بعدهم، فهذا الأسود بن يزيد صاحب عبدالله بن مسعود يختم القرآن كل ست ليال، فإذا جاء رمضان [ ] ختم كل ليلتين، وكان قتادة المفسر التابعي يختم كل سبع ليال، فإذا جاء رمضان [ ] ختم كل ثلاث، فإذا جاء العشر الأواخر ختم كل ليلة، وهذا أبو بكر ابن عياش قد ختم القرآن ثماني عشرة ألف ختمة طيلة حياته، وهو رقم يُتعجب منه ويُخضع له، وصح عن الإمام الشافعي [ ] -رحمه الله تعالى- أنه ختم القرآن في رمضان [ ] ستين مرة، وكان الإمام ابن عساكر يحاول اللحاق بالشافعي [ ] في صنيعه هذا حتى أنه كان يعتكف في المنارة البيضاء في مسجد دمشق طيلة رمضان [ ] لكنه لم يستطع إلا أن يختمه 59 مرة! -رحمهم الله- تعالى- ما أعظم هممهم.
وكان الإمام البخاري [ ] -رحمه الله تعالى- يختم في رمضان [ ] في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة، وكان يسهل على السلف كثرة الختم في رمضان [ ] لتفرغهم له وعدم انشغالهم [ ] بغيره، وكان منهم الإمام مالك إذا دخل رمضان [ ] لم يقبل إلا على القرآن وترك دروسه الحديثية وغير ذلك.
فإن قال قائل: ألم يَنه النبي [ ] عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال، كما صح في واقعة عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- حيث طلب منه أن يختم القرآن في أقل من ثلاث فأبى عليه النبي.
فإن قيل ذلك، فإنه يقال رداً على هذا: إن السلف العظام، ومنهم الإمام الشافعي [ ] وغيره ممن كانوا يكثرون الختم في رمضان، قد عرفوا هذا الحديث الشريف وحفظوه، لكنهم أرادوا استغلال الزمان واغتنام أجر تلاوة أكبر قدر ممكن من الختمات القرآنية. وذلك جائز إن لم يكن على سبيل المداومة طيلة الحياة، فإن داوم إنسان على الختم في أقل من ثلاث يُنهى عن هذا ويساق له هذا الحديث، أما إن تفرغ مدة من الزمان شريفة مباركة في رمضان [ ] لينهل من حوض القرآن ويكثر ختمه فلا يُنهى عن هذا ولا يعترض عليه معترض، ألم يقرأ عثمان القرآن في ركعة عند الكعبة، كما وردت بذلك الأخبار عنه، وكذلك قرأه الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- في ركعة، وممن صنع ذلك سعيد بن جبير والقاضي أبو أحمد العسال الأصبهاني وجمع من السلف، وكل ذلك جائز بل مستحب إن لم يكن على سبيل المداومةإذ المداومة على قراءة القرآن في ثلاث ليال أو أكثر هي الحال المطلوبة المثلى.
لكن ينبغي أن نعلم شيئاً مهماً نحقق به التوازن المطلوب، ألا وهو أن المرء في هذا الزمان قد يخفى عليه كثير من معاني القرآن وأحكامه، فمثل هذا لو تفرغ في هذا الشهر المبارك للتفهم والتدبر والتطبيق كان خيراً له من كثير من القراءة وموالاة الختم بلا فهم ولا تدبر ولا تطبيق، بل أجزم أن قراءة القرآن مرة واحدة أو نصفه أو ثلثه أو أقل طيلة رمضان [ ] بشرط التفهم والتدبر والتطبيق خير من قراءة ثلاثين ختمة يردد حروفها ولا يفقه حدودها ولا يدري معانيها، وهل ابتلينا بما ابتلينا به من غلبة الفكر الغربي والثقافة الغربية على بلادنا، ومن الهجمة الصليبية اليهودية العسكرية على أرضنا وانتقاصها وانتهاكها، ومن وقوع عدد من بلدان الإسلام فريسة لهؤلاء الوحوش، ومن فساد أكثر الأنظمة الإسلامية سياسياً وإدارياً، وضعفها اقتصادياً وعسكرياً، هل ابتلينا بكل ذلك إلا لأنا وضعنا كتاب الله وراء ظهورنا ودَبر آذاننا، وأعرضنا عن تفهمه وتدبره ومن ثم تطبيقه؟!
لذلك إذا جاء رمضان [ ] وجب على العباد أن يكرعوا وينهلوا من حياض القرآن، وأن يقبلوا على تفهمه وتدبره، وألا يتهاونوا في تطبيقه، عسى الله -تعالى- أن يرفعنا من وكستنا، وأن يقيل عثرتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين